الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***
{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)} وقوله تعالى: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ} يحتمل أنْ يكون من كلام الجلود، ويحتمل أنْ يكون من كلام اللَّه عز وجل، وجمهور الناس على أَنَّ المراد بالجلود الجلودُ المعروفةُ، وأمَّا معنى الآية فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يريد وما كنتم تَتَصَاونُونَ وتَحْجِزُونَ أَنْفُسَكُمْ عن المعاصي والكُفْر؛ خوفَ أَنْ يشهد، أو لأَجْلِ {أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ...} الآية، وهذا هو منحى مجاهد، والمعنى الثاني أنْ يريد: وما يمكنكم ولاَ يسَعُكُمْ الاخْتفاءُ عن أَعْضَائِكُمْ، والاستتارُ عنها بكُفْرِكُمْ ومعاصيكم، وهذا هو مَنْحَى السُّدِّيِّ، وعن ابن مسعود قال: " إِنِّي لمستترٌ بأستارِ الكعبةِ، إذْ دَخَلَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ: قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ أَوْ ثَقَفِيَّانِ وقُرَشِيٌّ، قَلِيلٌ فِقْهُ قُلوبِهِمْ، كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ، فَتَحَدَّثُوا بِحَدِيثٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَترَى اللَّهَ يَسْمَعُ مَا قُلْنَا؟ فَقَالَ الآخَرُ: يَسْمَعُ إذَا رفَعْنَا، وَلا يَسْمَعُ إذَا أَخْفَيْنَا، وَقَالَ الآخَرُ: إنْ كَانَ يَسْمَعُ مِنْهُ شَيْئاً فَإنَّهُ يَسْمَعُهُ كُلَّهُ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ هذه الآيةُ: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ}، وقرأ حتى بلغ: {وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين} ". قال الشيخ أبو محمَّدِ بْنُ أبي زَيْدٍ في آخر: «مُخْتَصَرِ المُدَوَّنَةِ» له: واعلم أنَّ [الأجساد التي أطاعت أو عصت، هي التي تُبْعَثُ يومَ القيامة لتجازى، والجلودُ التي كانَتْ في الدنيا، والألسنةُ]، والأيْدِي، والأرجُلُ هي التي تشهد عليهم يوم القيامة على مَنْ تشهَدُ، انتهى. قال القرطبيُّ في «تذكرته»: واعلم أَنَّ عند أهل السنة أَنَّ تلك الأجسادَ الدُّنْيَوِيَّةَ تُعَادُ بأعيانها وأعراضِهَا بلا خلافٍ بينهم في ذلك، انتهى، ومعنى {أَرْدَاكُمْ}: أهلككم، والرَّدَى: الهَلاَكُ؛ وفي صحيحُ «البخاريِّ» و«مسلم» عن جابر قال: سمعتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ قبل وفاته بثلاثٍ: " لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِّلا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " وذكره ابن أبي الدنيا في كتابٍ حَسَنِ الظنِّ باللَّه عز وجلَّ، وزاد فيه: «فَإنَّ قَوْماً قَدْ أَرْدَاهُمْ سُوءُ ظَنِّهِمْ بِاللَّهِ، فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ تَبَارَكَ وتعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذى ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الخاسرين} انتهى، ونقله أيضاً صاحب «التذكرة». وقوله تعالى: {فَإِن يَصْبِرُواْ} مخاطبةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمعنى: فإنْ يصبروا أوْ لا يَصْبِرُوا، واقتصر لدلالة الظاهِرِ على ما ترك. وقوله تعالى: {وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ} معناه: وإنْ طَلَبُوا العتبى، وهي الرضَا فما هم مِمَّنْ يُعْطَاها ويَسْتَوْجِبُهَا؛ قال أبو حَيَّان: قراءة الجمهور: «وَإنْ يَسْتَعْتِبُوا مبنيًّا للفاعل، و: {مِّنَ المعتبين} مبنيًّا للمفعول، أي: وإِنْ يعتذروا فما هم من المَعْذُورِينَ، انتهى. ثم وصف تعالى حالهم في الدنيا وما أصابهم به حِينَ أعرضوا، فَحْتَّمَ عليهم، فقال: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ}، أي: يَسَّرْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ سَوْءٍ من الشياطين وغُوَاةِ الإنْسِ. وقوله: {فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أي: عَلَّمُوهم، وقَرَّروا لهم في نفوسهم معتقداتِ سوءٍ في الأمور التي تقدَّمتهم من أمر الرسُلِ والنُبُوَّاتِ، ومَدْحِ عبادةِ الأصنامِ، واتباع فعل الآباء، إلى غير ذلك مِمَّا يُقَالُ: إنَّه بين أيدِيهِمْ، وذلك كلُّ ما تقدَّمهم في الزَّمَنِ، واتصل إليهم أثره أو خَبَرُهُ، وكذلك أعطُوهُمْ معتقداتِ سوءٍ فيما خَلْفهم، وهو كلُّ ما يأتي بَعْدَهُمْ من القيامة والبعث ونَحْوِ ذلك {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول} أي: سبق عليهم القضاءُ الحَتْمُ، وأَمَرَ اللَّهُ بتَعْذِيبِهِمْ في جملةِ أُمَمٍ مُعَذِّبِينَ، كُفَّارٍ من الجنِّ والإنس. وقالت فرقة: «في» بمعنى «مع»، أي: مع أمم، قال * ع *: والمعنى يتأدى بالحرفين، ولا نحتاج أنْ نجعل حرفاً بمعنى حَرْفٍ، إذ قد أبى ذلك رؤساءُ البَصْرِيِّينَ.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)} وقوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان...} الآية: الآية حكاية لما فعله بعض كفار قريش، كأبي جَهْلٍ وغيره، لما خافوا استمالَةَ القُلُوبِ بالقُرْآنِ، قالوا: متى قرأَ محمد فالغطوا بالصَّفِيرِ والصِّيَاحِ وإنشادِ الشِّعْرِ؛ حتى يخفى صَوْتُهُ، فهذا الفعلُ منهم هو اللغو، وقال أبو العالية: أرادوا: قَعُوا فيه وعَيِّبوه، وقولهم: {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} أي: تطمسون أمر محمد، وتُمِيتُون ذكره، وتَصْرِفُون عنه القلوبَ، فهذه الغاية التي تمنوها، ويأبى اللَّه إلاَّ أنْ يتم نوره ولو كره الكافرون. وقوله تعالى: {فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً...} الآية، قوله: {فَلَنُذِيقَنَّ}: الفاء دخلَتْ على لام القسم، وهي آيةُ وعيدٍ لقريشٍ، والعذابُ الشديدُ: هو عذابُ الدنيا في بَدْرٍ وغيرها، والجزاء بأسوإ أعمالهم هو عذابُ الآخرة. * ت *: حَدَّثَ أبو عُمَرَ في «كتاب التمهيد» قال: حدَّثنا أحمد بن قَاسِمٍ، قال: حدَّثنا محمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، قال: حدَّثنا إبراهيمُ بْنُ موسَى بْنِ جَمِيلٍ، قال: حدَّثنا عبد اللَّه بن محمَّد بن أبي الدنيا، قال: حدثنا العَتَكِيُّ. قال: حدثنا خالد أبو يزيد الرَّقِّيُّ عن يحيى المَدَنِيِّ، عن سالِم بْنِ عبد اللَّه عن أبيه قال: خرجْتُ مرةً، فمررْتُ بِقَبْرٍ مِنْ قُبُورِ الجاهِلِيَّةِ، فإذا رجلٌ قد خرج من القَبْرِ، يَتَأَجَّجُ ناراً، في عُنُقِهِ سلسلةٌ، ومعي إدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ، فَلَمَّا رآني قال: يَا عَبْدَ اللَّهِ، اسقني، قال: فَقُلْتُ: عَرِّفْنِي، فَدَعَانِي باسمي، أو كلمة تقولها العَرَبُ: يِا عَبْدِ اللَّهِ، إذْ خَرَجَ على أَثَرِهِ رَجُلٌ من القَبْرِ، فقال: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لاَ تَسْقِهِ، فَإنَّهُ كَافِرٌ، ثُمَّ أَخَذَ السِّلْسِلَةَ فاجتذبه، فَأَدْخَلَهُ القَبْرَ، قال: ثم أَضَافَنِي اللَّيْلَ إلى بَيْتِ عَجُوزٍ، إلى جَانِبِهَا قَبْرٌ، فسمعْتُ مِنَ القَبْرِ صَوْتاً يَقُولُ: بَوْلٌ وَمَا بَوْلٌ، شَنٌّ وَمَا شَنٌّ، فقلتُ للعَجُوزِ: ما هذا؟ قالَتْ: كَانَ زَوْجاً لِي، وكان إذَا بَالَ لَمْ يَتَّقِ البَوْلَ، وكُنْتُ أَقُولُ لَهُ: وَيْحَك! إنَّ الجَمَلَ إذَا بَالَ تَفَاجّ، وكان يأبى، فهو يُنَادِي من يَوْم مَاتَ: بَوْلٌ وَمَا بَوْلٌ، قلتُ: فما الشَّنُّ؟ قالت: جاء رجلٌ عطشانُ فقال: اسقنيا فقال: دُونَكَ الشَّنَّ، فإذا لَيْسَ فيه شَيْءٌ؛ فخَرَّ الرَّجُلُ مَيِّتاً، فهُو ينادي مُنْذُ ماتَ: شَنٌّ وَمَا شنٌّ، فلما قَدِمْتُ على رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أخبرتُهُ، فنهى: أَنْ يُسَافِرَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ. قال أبو عمر: هذا الحديث في إسناده مجهولُونَ، ولم نُورِدْهُ لِلاحتجاجِ به؛ ولكنْ لِلاعتبار، وما لم يكنْ حكم، فقد تسامح الناسُ في روايته عن الضعفاء، انتهى من ترجمة عبد الرحمن بن حَرْمَلَةَ، وكلامه على قول النبي صلى الله عليه وسلم: " الشَّيْطَانُ يَهُمُّ بِالْوَاحِدِ وَالاِثْنَيْنِ، فَإذَا كَانُوا ثَلاَثَةً لَمْ يَهُمَّ بِهِمْ " وقد ذكرنا الحكاية الأولى عن الوَائِليِّ في سورة {اقرأ باسم رَبِّكَ} بغير هذا السند، وأَنَّ الرجُلَ الأَوَّلَ هو أبو جَهْلٍ، انتهى، ثم ذكر تعالى مقالة كُفَّارِ يومِ القيامة إذا دَخَلُوا النار؛ فإنَّهم يَرَوْنَ عظيمَ ما حَلَّ بِهِمْ وسُوء مُنْقَلَبِهِمْ، فَتَجُولُ أَفكارهم فيمن كان سبب غوايتهم ومبادي ضلالتهم، فيعظم غيظهم وَحَنَقُهُمْ عليه، وَيَوَدُّونَ أنْ يَحْصُلَ في أشدِّ عذابٍ، فحينئذٍ يقولُونَ: {رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا} وظاهر اللفظ يقتضِي أَنَّ الذي في قولهم: {اللذين} إنما هو لِلْجِنْسِ، أي: أَرنا كلَّ مُغْوٍ من الجنِّ والإنْسِ، وهذا قول جماعة من المفسرين. وقيل: طلبوا ولد آدم الذي سَنَّ القَتْلَ والمعصية من البَشَرِ، وإبليسَ الأبالسة من الجِنِّ، وهذا قولٌ لا يخفى ضعفه، والأَوَّلُ هو القويُّ، وقولهم: {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} يريدون في أسفل طبقة في النار؛ وهي أشدُّ عذاباً.
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} وقوله تعالى: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ} قال سفيان بن عبد اللَّه الثَّقَفِيُّ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ، قَالَ: «قُلْ: رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ استقم». * ت *: هذا الحديث خَرَّجه مسلم في «صحيحه»، قال صاحب «المُفْهِمِ»: جوابه صلى الله عليه وسلم من جوامع الكَلِم، وكأَنَّهُ مُنْتَزَعٌ من قول اللَّه تعالى: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا...} الآية، وتلخيصه: اعْتَدَلُوا على طاعته قولاً وفعلاً وعقداً، انتهى من «شرح الأربعين حديثاً» لاِبْنِ الفَاكِهَانِيِّ، قال * ع *: واخْتَلَفَ النَّاسُ في مقتضى قوله: {ثُمَّ استقاموا} فذهب الحَسَنُ وجماعةٌ إلى أَنَّ معناه: استقاموا بالطاعاتِ واجتناب المعاصِي، وتلا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هذه الآيةُ على المِنْبَرِ، ثم قال: استقاموا واللَّهِ بطاعتهِ، ولم يروغوا روِغانَ الثَّعَالِبِ، قال * ع *: فذهب رحمه اللَّه إلى حَمْلِ الناس على الأَتَمِّ الأفْضَلِ، وإلاَّ فيلزم على هذا التأويل من دليل الخطاب أَلاَّ تتنزل الملائكةُ عِنْدَ الموت على غير مستقيمٍ على الطاعَةِ، وذهب أبو بكْرٍ رضي اللَّه عنه وجماعةٌ معه إلى أَنَّ المعنى: ثم: استقاموا على قولهم: رَبُّنَا اللَّهُ، فلم يختلَّ توحيدُهُمْ، ولا اضطرب إيمانهم، قال * ع *: وفي الحديث الصحيح: " مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّه، دَخَلَ الجَنَّةَ " وهذا هو الْمُعْتَقَدُ إن شاء اللَّه، وذلك أَنَّ العصاة من أُمَّةِ محمَّد وغيرها فرقتان: فأَمَّا مَنْ غفر اللَّه له، وترك تعذيبه، فلا محالة أَنَّه مِمَّن تتنزَّل عليهم الملائكة بالبشارة، وهو إنَّما استقام على توحيده فَقَطْ، وأَمَّا مَنْ قَضَى اللَّهُ بِتَعْذِيبِهِ مُدَّةً، ثم [يأمر] بإدخاله الجَنَّةَ، فلا محالة أَنَّه يلقى جميعَ ذلك عند مَوْتِهِ وَيَعْلَمُهُ، وليس يَصِحُّ أنْ تكون حاله كحالة الكافر واليائِسِ مِنْ رحمة اللَّه، وإذا كان هذا فقَدْ حَصَلَتْ له بشارة بأَلاَّ يخافَ الخُلُودَ، ولا يحزنَ منه، ويدخلَ فيمن يقال لهم: {وَأَبْشِرُواْ بالجنة التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} ومع هذا كله فلا يختلف في أَنَّ المُوَحِّدَ المستقيمَ عَلَى الطَّاعَةِ أَتَمُّ حالاً وأَكمل بشارةً، وهو مقصد أمير المؤمنين عمر رضي اللَّه عنه، وبالجملة، فكُلَّما كان المرءُ أشَدَّ استعدادا، كان أسْرَعَ فوزاً بفَضْلِ اللَّه تعالى؛ قال الثعلبيُّ: قوله تعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة} أي: عند الموت {أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ} قال وَكِيعٌ: والبشرى في ثلاثة مَوَاطِنَ: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث، وفي البخاريِّ: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة} أي عند الموت، انتهى، قال ابن العربيِّ في " أحكامه ": {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة} قال المُفَسِّرُونَ: عند الموت، وأنا أقول: كُلَّ يَوْم، وأَوْكَدُ الأيام: يومُ الموت، وحينَ القَبْرِ، ويَوْمُ الفزع الأكبر، وفي ذلك آثار بَيَّنَّاها في موضعها، انتهى، قال * ع *: قوله تعالى {أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ}: أَمَنَةٌ عامَّةٌ في كُلِّ هَمِّ مستأنفٍ، وتسليةٌ تَامَّةٌ عن كُلِّ فَائِتٍ مَاضٍ، وقال مجاهدٌ: المعنى: لا تخافُونَ ما تَقْدُمُونَ عليه، ولا تحزنوا على ما * ت *: وذكر أبو نُعَيْمٍ عن ثابتٍ البُنَانيِّ أَنَّه قرأ: حم السجدةِ حَتَّى بلغ: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة}، فوقف، وقال: بلغنا أنَّ العَبْدَ المؤمن حين يُبْعَثُ من قبره يتلقَّاه المَلَكَانِ اللَّذانِ كانا معه في الدنيا، فيقولانِ له: لاَ تَخَفْ، ولا تَحْزَنْ، وأبشر بالجنة التي كنت تُوْعَدُ، قال: فَأَمَّنَ اللَّه خوفَه، وأَقَرَّ عينه، الحديث. انتهى. قال ابن المبارك في " رقائقه ": سمعتُ سفيانَ يَقُولُ في قوله تعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة}: أي عند الموت {أَلاَّ تَخَافُواْ}: ما أمامكم {وَلاَ تَحْزَنُواْ}: على ما خلفتم من ضَيْعَاتِكُمْ {وَأَبْشِرُواْ بالجنة التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} قال: يُبَشَّرُ بثلاث بشاراتٍ: عند الموت، وإذا خرج من القبر، وإذا فَزِعَ، {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الحياة الدنيا} قال: كانوا معهم، قال ابن المبارك: وأخبرنا رَجُلٌ عن منصورٍ، عن مجاهدٍ في قوله تعالى: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الحياة الدنيا} قال: قُرَنَاؤُهُمْ يلقونهم يوم القيامة، فيقولون: لا نفارقُكُمْ حتى تدخلوا الجنة، اه. وقوله تعالى: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الحياة الدنيا وَفِى الاخرة} المتكلم ب {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ} هم الملائكة القائلون: {أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ} أي: يقولون للمؤمنين عند الموت وعند مشاهدة الحق: نحن كُنَّا أولياءَكُمْ في الدنيا، ونحن هُمْ أولياؤكم في الآخرة؛ قال السُّدِّيُّ: المعنى: نحن حَفَظَتُكُم في الدنيا، وأولياؤكم في الآخرة، والضمير في قوله: {فِيهَا} عائدٌ على الآخرة، و{تَدَّعُونَ} معناه: تَطْلُبُونَ؛ قال الفَخْرُ: ومعنى كونِهِمْ أولياءَ للمؤمنين، إشارةٌ إلى أَنَّ للملائكة تأثيراتٍ في الأرواحِ [البشريَّةِ، بالإلهاماتِ والمُكَاشَفَاتِ اليقينيَّةِ والمناجاتِ الخفيَّةِ؛ كما أَنَّ للشياطينِ تَأْثيراتٍ في الأرواحِ] بإلقاء الوسَاوِسِ، وبالجملة، فَكَوْنُ الملائكةِ أولياءَ للأرواح الطَّيِّبَةِ الطاهرةِ، حاصِلٌ من جهاتٍ كثيرةٍ معلومةٍ لأربابِ المكاشفاتِ والمشاهَدَاتِ، فَهُمْ يَقُولُونَ: كما أَنَّ تلك الولاياتِ حاصلةٌ في الدنيا، فهي تكونُ باقيةً في الآخرة؛ فإنَّ تلك العلائِقَ ذاتِيَّةٌ لازمة، غير مائلة إلى الزوال؛ بل تصير بعد الموت أقوى وأبقى؛ وذلك لأَنَّ جوهر النفْسِ من جنس الملائكة، وهي كالشُّعْلَةِ بالنسبة إلى الشمس والقطرة بالنسبة إلى البحر، وإنَّما التَّعَلُّقَاتُ الجَسَدَانِيَّةُ والتدبيراتُ البدنيَّةُ هي الحائلة بَيْنَهَا وبين الملائكة، فإذا زالَتْ تلك العلائِقُ، فقد زَالَ الْغِطَاءُ، واتَّصَلَ الأثر بالمؤثر، والقطرةُ بالبَحْرِ، والشعلةُ بالشمْسِ، انتهى. * ت *: وقد نقل الثعلبيُّ من كلام أرباب المعاني هنا كلاماً كثيراً حَسَناً جِدًّا، موقظاً لأربابِ الهِمَمِ، فانظره إنْ شِئْتَ، وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ بأَنَّهُ قال: «إذَا فَنِيَتْ أَيَّامُ الدُّنْيَا عَنْ هَذَا الْعَبْدِ المُؤْمِنِ، بَعَثَ اللَّهُ إلى نَفْسِهِ مَنْ يَتَوَفَّاهَا، قَالَ: فَقَالَ صَاحِبَاهُ اللَّذَانِ يَحْفَظَانِ عَلَيْهِ عَمَلَهُ: إنَّ هَذَا قَدْ كَانَا لَنَا أَخاً وَصَاحِباً، وَقَدْ حَانَ الْيَوْمَ مِنْهُ فِرَاقٌ، فَأْذَنُوا لَنَا، أَوْ قَالَ: دَعُونَا نُثْنِ على أَخِينَا، فَيُقَالُ: أَثْنِيَا عَلَيْهِ، فَيَقُولاَنِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْراً، وَرَضِيَ عَنْكَ، وَغَفَرَ لَكَ، وأَدْخَلَكَ الجَنَّةَ؛ فَنِعْمَ الأَخُ كُنْتَ والصَّاحِبُ؛ مَا كَانَ أَيْسَرَ مُؤْنَتَكَ، وَأَحْسَنَ مَعُونَتَكَ على نَفْسِكَ، مَا كَانَتْ خَطَايَاكَ تَمنَعُنَا أَنْ نَصْعَدَ إلى رَبِّنَا، فَنُسَبِّحَ بِحَمْدِهِ، وَنُقَدِّسَ لَهُ، وَنَسْجُدَ لَهُ، وَيَقُولُ الَّذِي يتوفى نَفْسَهُ: اخرج أَيُّهَا الرُّوْحُ الطَّيِّبُ إلى خَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ، فَنِعْمَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ، اخرج إلَى الرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ وَجَنَّاتِ النَّعِيمِ وَرَبٍّ عَلًَيْكَ غَيْرِ غَضْبَانَ،، وَإذَا فَنِيَتْ أَيَّامُ الدُّنْيَا عَنِ الْعَبْدِ الْكَافِرِ، بَعَثَ اللَّهُ إلى نَفْسِهِ مَنْ يَتَوَفَّاهَا، فَيَقُولُ صَاحِبَاهُ اللَّذَانِ كَانَا يَحْفَظَانِ عَلَيْهِ عَمَلَهُ: إنَّ هَذَا قَدْ كَانَ لَنَا صَاحِباً، وَقَدْ حَانَ مِنْهُ فِرَاقٌ، فَأْذَنُوا لَنَا، وَدَعُونَا نُثْنِ على صَاحِبِنَا، فَيُقَالُ: أَثْنِيَا عَلَيْهِ فَيَقُولاَن: لَعْنَةُ اللَّهِ وَغَضَبُهُ عَلَيْهِ، وَلاَ غَفَرَ لَهُ، وَأَدْخَلَهُ النَّارَ فَبِئْسَ الصَّاحِبُ؛ مَا كَانَ أَشَدَّ مُؤْنَتَهُ، وَمَا كَانَ يُعِينُ على نَفْسِهِ؛ إنْ كَانَتْ خَطَايَاهُ وَذُنُوبُهُ لَتَمْنَعُنَا أَنْ نَصْعَدَ إلى رَبِّنَا فَنُسَبِّحَ لَهُ، وَنُقَدِّسَ لَهُ، وَنَسْجُدَ لَهُ، وَيَقُولُ الَّذِي يتوفى نَفْسَهُ: اخرج أَيُّهَا الرُّوحُ الخَبِيثُ إلى شَرِّ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ، فَبِئْسَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ، اخرج إلَى الحَمِيمِ وَتَصْلِيَةِ الجَحِيمِ وَرَبٍّ عَلَيْكَ غَضْبَانَ»، انتهى.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله...} الآية ابتداءُ توصيةٍ لنبيِّه عليه السلام، وهو لفظ يَعُمُّ كلَّ مَنْ دعا قديماً وحديثاً إلى اللَّه عزَّ وجلَّ من الأنبياء والمؤمنين، والمعنى: لا أَحَدَ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ هذه حالُهُ، وإلى العمومِ ذهب الحسن ومقاتلٌ وجماعةٌ، وقيل: إنَّ الآية نزلَتْ في المُؤَذِّنينَ، وهذا ضعيفٌ؛ لأَنَّ الآية مَكِّيَّةٌ، والأذانُ شُرِعَ بالمدينةِ، قال أبو حَيّان: {وَلاَ السيئة} «لا» زائدة للتوكيدِ، انتهى. وقوله تعالى: {ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ} آية جَمَعَتْ مكارمَ الأخلاقِ وأنواعَ الحِلْمِ، والمعنى: ادفع ما يعرض لك مع الناس في مخالطتهم بالفعلة أو بالسيرة التي هي أَحْسَنُ، قال ابن عبَّاس: أمره اللَّه تعالى في هذه الآية بالصَّبْر عند الغَضَبِ، وَالحِلْمِ عند الجَهْل، والعَفْوِ عِنْدَ الإسَاءَةِ، فإذا فعل المؤمنُونَ ذلك، عَصَمَهُمُ اللَّه من الشيطان، وخضع لهم عَدُوُّهم، {كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ} البخاريُّ: «وليُّ حميم» أي: قريب، انتهى،، وفسَّر مجاهدٌ وعطاءٌ هذه الآية بالسَّلاَمِ عند اللِّقاء، قال * ع *: ولا شَكَّ أنَّ السلام هو مبدأُ الدَّفْعِ بالتي هي أحسن، وهو جزء منه، والضمير في قوله: {يُلَقَّاهَا} عائد على هذه الخُلُقِ التي يقتضيها قوله: {ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ}، وقالت فرقة: المراد: وما يُلَقَّى «لاَ إله إلاَّ اللَّهُ»، وهذا تفسير لا يقتضيه اللفظ. وقوله سبحانه: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ}: مدح بليغ للصابرين، وذلك بَيِّنٌ للمتأَمِّلِ؛ لأنَّ الصَّبْرَ على الطاعات وعنِ الشهوات جامع لخصَالِ الْخَيْر كلِّها، والحظُّ العظيمُ: يَحْتَمِلُ أن يريد من العقل والفضلِ؛ فتكونَ الآية مدحاً لِلْمُتَّصِفِ بذلك، ويحتمل أن يريد: ذو حظ عظيم من الجنة وثواب الآخرة، فتكونَ الآية وعداً، وبالجنة فسر قتادةُ الحَظَّ هنا.
{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} وقوله تعالى: {وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله} «إِمَّا»: شرطٌ وجوابُ الشرطِ قوله: {فاستعذ} والنَّزْغُ: فِعْلُ الشيطانِ في قَلْبٍ أو يدٍ من إلقاءِ غَضَبٍ، أو حقدٍ، أو بطشٍ في اليد. فمن الغضب هذه الآية، ومن الحقد قوله: {نَّزغَ الشيطان بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى} [يوسف: 100]، ومن البَطْشِ قولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " لاَ يُشِرْ أَحَدُكُمْ على أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ؛ لاَ يَنْزَغُ الشَّيْطَانُ في يَدِهِ فَيُلْقِيَهُ في حُفْرَةٍ مِنْ حُفَرِ النَّارِ " ومن دعاء الشيخِ الوليِّ العارف باللَّه سبحانه، محمَّد بن مَسَرَّة القُرْطُبِيِّ: اللَّهُمَّ، لاَ تَجْعَلْ صدري للشيطان مَرَاغاً، ولا تُصَيِّرْ قلبي له مجالاً، ولا تَجْعَلْنِي، مِمَّنِ استفزَّهُ بصوته، وأجلب عليه بخيله ورَجْلِهِ، وكُنْ لي من حبائله مُنْجِياً، ومن مصائده مُنْقِذاً، ومن غَوَايَتِهِ مُبْعِداً، اللهم إنَّه وَسْوَسَ في القلب، وألقى في النَّفْس ما لا يطيقُ اللِسانُ ذِكْرَهُ، ولا تستطيعُ النَّفْس نشره مِمَّا نَزَّهَك عنه عُلُوُّ عِزِّكَ، وسُمُوُّ مجدك، فَأَزِلْ يا سيِّدِي ما سَطَرَ، وامح ما زَوَّرَ بوَابِلِ من سحائِبِ عَظَمَتِكَ وطُوفَانٍ مِنْ بِحَارِ نُصْرَتِكَ، واسلل عليه سيفَ إبعادك، وارشقه بسهام إقصائِكَ، وأحْرِقْهُ بنار انتقامك، واجعل خَلاَصِي منه زائداً في حُزْنِهِ، وَمُؤَكِّداً لأسفه، ثم قال رحمه اللَّه: اعلم أَنَّه ربما كان العبد في خَلْوَتِهِ مشتغلاً بتلاوته، ويجدُ في نفسه من الوسوسة ما يحولُ بينه وبين رَبِّه، حتى لا يَجِدَ لطعمِ الذِّكْرِ حلاوةً، ويجدَ في قلبه قساوةً، وربما اعتراه ذلك مع الاجتهاد في قراءته؛ وعِلَّةُ ذلك أَنَّ الذِّكْرَ ذِكْرَانِ: ذكرُ خَوْفٍ ورهبةٍ، وذكْرُ أَمْنٍ وغفلةٍ، فإذا كان [الذِّكْرُ بالخَوْفِ والرهبة، خَنَسَ الشيطانُ، ولم يحتملِ الحَمْلَةَ، وأذهب الوسوسة؛ لأنَّ الذكر إذا كان] باجتماع القلب وصِدْقِ النية، لم يكُنْ للشيطانِ قُوَّةٌ عند ذلك، وانقطعَتْ علائقُ حِيَلِهِ؛ وإنَّما قُوَّتُهُ ووسوستُهُ مع الغَفْلَة، وإذا كان [الذِّكْرُ بالأَمْنِ والغَفْلَةِ لَمْ تفارقْهُ الوَسْوَسَةُ، وإنِ استدام العَبْدُ الذِّكْرَ والقراءةَ؛ لأَنَّ على قلب الغافلِ غشاوةً؛ ولا يجد] صاحبها لطعم الذكْرِ حلاوةً، فَتَحَفَّظْ على دينك من هذا العَدُوِّ، وليس لك أن تزيله عن مرتبته، ولا أَنْ تزيحَهُ عن وطنه، وإنما أُبِيحَ لك مجاهدته، فاستعنْ باللَّه يُعِنْك، وثِقْ باللَّه؛ فإنَّهُ لا يَخْذُلُكَ؛ قال تعالى: {والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين} [العنكبوت: 69]، انتهى من تصنيفه رحمه اللَّه. وندب سبحانه في الآية المتقدمة إلى الأخذ بمكارم الأخلاق، ووعد على ذلك، وعَلِمَ سبحانه أَنَّ خِلْقَةَ البشر تغلب أحياناً وتَثُورُ بِهِمْ سَوْرَةُ الغضب ونَزْغُ الشيطان؛ فَدَلَّهُمْ في هذه الآية على ما يُذْهِبُ ذلك، وهي الاستعاذة به عزَّ وجلَّ، ثم عَدَّدَ سبحانه آياته؛ ليعتبر فيها، فقال: {وَمِنْ ءاياته اليل والنهار والشمس والقمر}، ثم قال تعالى: {لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ}: وإِنْ كانت لكم فيهما منافع؛ لأَنَّ النفع منهما إنَّما هو بتسخير اللَّهِ إيَّاهما، فهو الذي ينبغي أَنْ يُسْجَدَ له، والضمير في {خَلَقَهُنَّ} قيل: هو عائد على الآيات المتقدم ذكرُهَا، وقيل: عائد على الشمس والقمر، والاثنان جمع، وأيضاً جمع ما لاَ يَعْقِلُ يُؤنَّثُ، فلذلك قال: {خَلَقَهُنَّ} ومن حيث يقال: شُمُوسٌ وأقمار؛ لاِختلافهما بالأَيَّامِ ساغ أنْ يعود الضميرُ مجموعاً، وقيل: هو عائد على الأربعة المذكورة. * ت *: ومن كتاب «المستغيثين باللَّه» لأبي القاسم بن بَشْكَوَال حَدَّثَ بسنده إلى أَنس بن مالك، قال: تقرأ «حاما السجدة»، وتَسْجُدُ عند السجدة، وتَدْعُو؛ فإنَّه يُسْتَجَابُ لك، قال الراوي: وَجَرَّبْتُهُ فوجدته مُسْتَجاباً، انتهى،، ثم خاطب جل وعلا نَبِيَّهُ عليه السلام بما يتضمَّن وعيدهم وحقارَة أمرهم، وأَنَّهُ سبحانه غَنِيٌّ عن عبادتهم بقوله: {فَإِنِ استكبروا...} الآية، وقوله: {فالذين} يعني بهم الملائكة هم صَافُّونَ يسبحون، و{عِندَ} هنا ليست بظرف مكان؛ وإِنَّما هي بمعنى المنزلة والقربةِ؛ [كما تقول: زَيْدٌ عنْدَ الْمَلِكِ جليلٌ، ويروى أَنَّ تَسبيحَ الملائكة قد صار لهم كالنَّفْسِ لبني آدم، {وَلاَ يَسْئَمُونَ} معناه: لا] يَملُّون، ثم ذكر تعالى آيةً منصوبةً؛ ليعتبر بها في أمر البعث من القبور، ويستدِلَّ بما شُوهِدَ من هذه على ما لم يُشَاهَدْ، فقال: {وَمِنْ ءاياته أَنَّكَ تَرَى الأرض خاشعة...} الآية، وخشوع الأرض هو ما يظهر عليها من استكانة وشَعَثٍ بالجَدْبِ، فهي عابسةٌ كما الخاشِعُ عَابِسٌ يكاد يَبْكِي، واهتزاز الأرض: هو تَخَلْخُلُ أجْزَائِهَا وَتَشَقُّقُهَا للنبات، ورُبُوُّهَا: هو انتفاخها بالماء وعُلُوُّ سطحِها به، وعبارة البخاريِّ: اهتزت بالنبات، ورَبَت: ارتفعَت اه، ثم ذكر تعالى بالأمر الذي ينبغي أنْ يُقَاسَ على هذه الآية، والعبرة، وذلك إحياء الموتى، فقال: {إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} والشيء في اللغة: الموجود.
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)} وقوله تعالى: {إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ فِى ءاياتنا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا...} الآية، آيةُ وعيدٍ، والإلحاد: المَيْلُ، وهو هنا ميل عن الحَقِّ؛ ومنه لَحْدُ المَيِّتِ؛ لأنَّه في جانب، يقال: لَحَدَ الرَّجُلُ، وألحد بمَعْنًى. واختلف في إلحادهم هذا: ما هو؟ فقال قتادة وغيره: هو إلحاد بالتكذيب، وقال مجاهد وغيره: هو بالمُكَاءِ والصفير واللغو الذي ذهبوا إليه، وقال ابن عباس: إلحادهم: وَضْعُهُمْ للكَلاَمِ غَيْرَ موضعه، ولفظة الإلحاد تَعُمُّ هذا كُلَّه، وباقي الآية بَيِّنٌ. وقوله تعالى: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} وعيدٌ في صيغة الأمر؛ بإجماع من أهل العلم. وقوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر...} الآية: يريد ب {الذين كَفَرُواْ} قريشاً، و{الذكر}: القرآن؛ بإجماع. واختُلِفَ في الخبر عنهم: أين هو؟ فقالت فرقة: هو في قوله: {أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]، ورُدَّ بكثرة الحائل، وأنَّ هنالك قوماً قد ذكروا بحسن رد قوله: «أولئك ينادون عليهم»، وقالت فرقة: الخبر مُضمَرٌ، تقديره: إنَّ الذين كفروا بالذكر لما جاءهم، هَلَكُوا أو ضَلُّوا، وقيل: الخبر في قوله: {وَإِنَّهُ لكتاب عَزِيزٌ} وهذا ضعيف لا يتجه، وقال عمرو بن عُبَيْدٍ: معناه في التفسير: إنَّ الذين كفروا بالذِّكْرِ لما جاءهم كفروا به، وإنه لكتاب عزيز؛ قال * ع *: والذي يَحْسُنُ في هذا هو إضمار الخبر، ولكِنَّهُ عند قوم في غير هذا الموضع الذي قدَّره هؤلاء فيه؛ وإنَّمَا هو بعد {حَكِيمٍ حَمِيدٍ}، وهو أَشَدُّ إظهاراً لِمَذَمَّةِ الكُفَّارِ به؛ وذلك لأَنَّ قوله: {وَإِنَّهُ لكتاب} داخل في صفة الذكر المُكَذَّبِ بهِ؛ فلم يتم ذكر المُخْبَر عنه إلاَّ بعد استيفاء وصفِهِ، ووصفَ اللَّه تعالى الكتابَ بالعِزَّةِ؛ لأنه بصحة معانيه مُمْتَنِعٌ الطَّعْنُ فيه والإزراء عليه، وهو محفوظ من اللَّه تعالى؛ قال ابن عباس: معناه: كريمٌ على اللَّه تعالى. وقوله تعالى: {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل} قال قتادة والسُّدِّيُّ: يريد: الشيطان، وظاهر اللفظَ يَعُمُّ الشيطان، وأنْ يجيء أمْرٌ يُبْطِلُ منه شَيْئاً. وقوله: {مِن بَيْنِ يَدَيْهِ} معناه: ليس فيما تقدم من الكتب ما يُبْطِلُ شَيْئاً منه. وقوله: {وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} أي: ليس يأتي بعده من نَظَرِ ناظر وفِكْرَةِ عاقل ما يبطل شيئاً منه، والمراد باللفظة عل الجملة: لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات. وقوله: {تَنزِيلَ} خبر مبتدإٍ، أي: هو تنزيلٌ. وقوله تعالى: {مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ}: يحتمل معنيين. أحدهما: أنْ يكون تسليةً للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عن مقالات، قومه وما يلقَاهُ من المكروه منهم. والثاني: أنْ يكون المعنى: ما يقال لك من الوحي، وتُخَاطَبُ به من جهة اللَّه تعالى إلاَّ ما قد قيل للرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ.
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} وقوله تعالى: {وَلَوْ جعلناه قُرْءاناً أعْجَمِيّاً...} الآية، الأَعْجَمِيُّ: هو الذي لا يفصح، عربيًّا كان أو غير عربيٍّ، والعَجَمِيُّ: الذي ليس من العرب، فصيحاً كان أو غيرَ فصيحٍ، والمعنى: ولو جعلنا هذا القرآن أعجمِيّاً، لا يبين لقالوا واعترضوا: لولا بينت آياته، وهذه الآية نزلت بسبب تخليطٍ كان من قريش في أقوالهم من أجل حروف وقعت في القرآن، وهي مِمَّا عُرِّبَ من كلام العجم؛ كسِجِّينٍ وإسْتَبْرَق ونحوه، وقرأ الجمهور: {ءَاعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ} على الاستفهام وهمزة ممدودة قبل الألف، وقَرَأَ حمزةُ والكسائيُّ وحَفْصٌ: «أَأَعْجَمِيٌّ» بهمزتين، وكأنهم يُنْكِرُونَ ذلك، ويقولون: أأعجمي وعربي مُخْتَلِطٌ؟ هذا لا يحسن [ثم قال تعالى]: {قُلْ هُوَ} يعني القرآن {لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَاءٌ} واختلف الناس في قوله: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} فقالت فرقة: يريد ب«هو» القرآن، وقالت فرقة يريد ب«هو» الوَقْرَ، وهذه كلُّها استعاراتٌ، والمعنى: أَنَّهم كالأعمى وصاحب الوقر؛ وهو الثِّقْلُ في الأذن، المانِعُ من السمع؛ وكذلك قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} يحتمل معنيين، وكلاهما مَقُولٌ للمفسِّرين: أحدهما: أنَّها استعارة لِقِلَّة فِهمهم، شَبَّهَهُمْ بالرجل ينادى على بُعْدٍ، يَسْمَعُ منه الصوت، ولا يفهمُ تفاصيلَهُ ولا معانيه، وهذا تأويلُ مجاهد. والآخر: أنَّ الكلام على الحقيقة، وأَنَّ معناه: أَنَّهم يوم القيامة يُنَادَوْنَ بكفرهم وقبيحِ أعمالهم من بعد؛ حتى يَسْمَعَ ذلك أهلُ الموقف؛ ليُفْضَحُوا على رؤوس الخلائق، ويكونَ أعظمَ لتوبيخهم؛ وهذا تأويل الضَّحَّاكِ. قال أبو حَيَّان: {عَمًى} بفتح الميم مصدر عَمِيَ، انتهى. ثم ضرب اللَّه تعالى أمر موسى مثلاً للنبي عليه السلام ولقريش، أي: فَعَلَ أولئك كأفعال هؤلاء، حين جاءهم مِثْلُ ما جاء هؤلاءِ، والكلمةُ السابقةُ هي حَتْمُ اللَّهِ تعالى بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة، والضمير في قوله: {لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ} يحتمل أنْ يعودَ على موسى، أو على كتابه. وقوله تعالى: {مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ...} الآية: نصيحةٌ بليغةٌ لِلْعَالَمِ، وتحذيرٌ وترجيَةٌ.
{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)} وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة...} الآية، المعنى: إنَّ علم الساعة ووقتَ مجيئها يَرُدُّهُ كُلُّ مؤْمِنٍ متكلِّم فيه إلى اللَّه عز وجل. وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِى...} الآية، التقدير: واذكر يوم يناديهم، والضمير في {يُنَادِيهِمْ} الأظهر والأسبق فيه للفهم: أنَّه يريد الكفارَ عَبَدَةَ الأوثان، ويحتمل أنْ يريد كُلَّ مَنْ عُبِدَ من دون اللَّه من إنسانٍ وغَيْرِهِ، وفي هذا ضَعْفٌ، وأَمَّا الضمير في قوله: {وَضَلَّ عَنْهُم} فلا احتمال لِعَوْدَتِهِ إلاَّ على الكفار، و{ءَاذَنَّاكَ} قال ابن عباس وغيره: معناه: أعلمناك ما مِنَّا مَنْ يشهدُ، ولا مَنْ شَهِدَ بأنَّ لك شريكاً {وَضَلَّ عَنْهُم} أي: نَسُوا ما كانوا يقولُونَ في الدنيا، ويَدْعُونَ من الآلهة والأصنام، ويحتمل أن يريد: وضَلَّ عنهم الأصنام، أي: تلفت، فلم يجدوا منها نَصْراً، وتلاشى لهم أمْرُهَا. وقوله: {وَظَنُّواْ} يحتمل أنْ يكونَ متَّصِلاً بما قبله، ويكون الوقْفُ عليه، ويكون قوله: {مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} استئنافاً، نفَى أنْ يكُونَ لهم مَلْجَأً أو موضِعَ رَوَغَانٍ، تقول: حَاصَ الرَّجُلُ: إذَا رَاغَ لِطَلَبِ النجاةِ مِنْ شَيْءٍ؛ ومنه الحديثُ: " فَحاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إلَى الأَبْوَابِ "، ويكونَ الظَّنُّ على هذا التأويل على بابه، أي: ظَنُّوا أَنَّ هذه المقالة {مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} مَنْجَاةٌ لهم، أو أمر يموِّهون به، ويحتمل أنْ يكون الوقف في قوله: {مِن قَبْلُ}، ويكون {وَظَنُّواْ} متصلاً بقوله: {مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} أي: ظنوا ذلك، ويكون الظن على هذا التأويل بمعنى اليقين، وقد تقدَّم البحثُ في إطلاق الظن على اليقين. * ت *: وهذا التأويلُ هو الظاهرُ، والأوَّلُ بعيدٌ جدًّا. وقوله تعالى: {لاَّ يَسْئَمُ الإنسان مِن دُعَاءِ الخير} هذه آياتٌ نزلَتْ في كُفَّارٍ، قيل: في الوليد بن المُغِيرَةِ، وقيل: في عُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، وجُلُّ الآية يُعْطِي أَنَّها نزلَتْ في كُفَّارٍ، وإنْ كان أَوَّلُها يتضمن خُلُقاً ربما شارك فيها بَعْضُ المؤمنين. و {دُعَاءِ الخير} إضافته إضافة المصدر إلى المفعول، وفي مصحف ابن مسعود: «مِنْ دُعَاءٍ بالْخَيْرِ» والخيرُ في هذه الآية المالُ والصحَّةُ، وبذلك تليق الآية بالكفَّار. وقوله تعالى: {لَيَقُولَنَّ هذا لِى} أي: بعملي وبما سعيت ولا يرى أَنَّ النِّعَمَ إنَّما هي فَضْلٌ من اللَّهِ تعالى؛ قال * ص *: {لَيَقُولَنَّ} قال أبو البقاءِ: هو جَوَابُ الشَّرْطِ، والفاء محذوفةٌ، وقيل: هو جوابُ قَسَمٍ محذوفٍ، قال * ص *: قُلْتُ: هذا هو الحَقُّ، والأَوَّلُ غلَطٌ؛ لأَنَّ القَسَمَ قد تقدَّم في قوله: {وَلَئِنِ} فالجواب له، ولأَنَّ حذف الفاء في الجواب لا يجوزُ، انتهى، وفي تغليط الصَّفَاقُسِيِّ لأبي البقاء نظر. وقوله: {وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} قولٌ بَيِّنٌ فيه الجَحْدُ والكُفْر، ثم يقول هذا الكافر: {وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى رَبِّى}: كما تقولُونَ: «إن لي عنده للحسنى» أي: حالاً ترضيني من مال، وبنين، وغيرِ ذلك، قال * ع *: والأمانيُّ على اللَّه تعالى، وتركُ الجِدِّ في الطاعةِ مذمومٌ لكُلِّ أحد؛ فقد قال عليه السلام: " الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لَمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنِ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وتمنى عَلَى اللَّهِ ".
{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)} وقوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ...} الآية، ذَكَرَ سبحانه الخُلُقَ الذميمة من الإنسان جملةً، وهي في الكافر بَيِّنَةٌ متمكِّنة، وأَمَّا المُؤْمِنُ، ففي الأغلب يَشْكُرُ على النعمة، وكثيراً ما يصبر عند الشدة، و{نأى} معناه: بَعُدَ ولم يَمِلْ إلى شُكْر ولا طَاعَةٍ. وقوله: {فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} أي: وطويلٍ أيضاً، وعبارةُ الثعلبيِّ: {عَرِيضٍ} أي: كثير، والعربُ تستعملُ الطُّولَ والعَرْضَ كليهما في الكَثرة من الكلام، انتهى. ثم أمر تعالى نبيَّهُ أنْ يوقِّف قريشاً على هذا الاحتجاج، وموضع تغريرهم بأنفسهِم، فقال: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله}، وخالفتموه ألستم على هلكة؟ فمن أَضَلَّ مِمَّنْ يبقى على مِثْلِ هذا الغَرَرِ مَعَ اللَّهِ؛ وهذا هو الشِّقَاقُ؛ ثم وعد تعالى نَبِيَّهُ عليه السلام بأَنَّهُ سَيُرِي الكُفَّارَ آياته، واختلف في معنى قوله سبحانه: {فِى الأفاق وَفِى أَنفُسِهِمْ} فقال المِنْهَالُ والسُّدِّيُّ وجماعةٌ: هو وَعْدٌ بما يفتحه اللَّه على رسوله من الأقطارِ حَوْلَ مَكَّةَ، وفي غيرِ ذَلِكَ مِنَ الأَرْضِ؛ كخَيْبَرَ ونحوها {وَفِى أَنفُسِهِمْ}: أراد به فَتْحَ مَكَّةَ؛ قال * ع *: وهذا تأويلٌ حَسَنٌ، يتضمَّن الإعلام بِغَيْبٍ ظَهَرَ بَعْدَ ذلك، وقال قتادةُ والضَّحَّاكُ {سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الأفاق}: هو ما أصاب الأُمَمَ المُكَذِّبَةَ في أقطار الأرض قديماً، {وَفِى أَنفُسِهِمْ}: يوم بدر، والتأويلُ الأَوَّلُ أرْجَحُ، واللَّه أعلم، والضمير في قوله تعالى: {أَنَّهُ الحق} عائد على الشرع والقرآن فبإظهار اللَّهِ نَبِيَّهُ وفتحِ البلاد عليه يتبيَّن لهم أَنَّه الحَقُّ. وقوله: {بِرَبِّكَ} قال أبو حَيَّان: الباء زائدة، وهو فاعل {يَكُفَّ} أي: أو لَمْ يَكْفِهِمْ رَبُّكَ، انتهى، وباقي الآية بَيِّنٌ.
{حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)} قوله تعالى: {حمعاساقا} قال الثعلبيُّ: قال ابن عباس: إنَّ {حمعاساقا} هذه الحروف بأعيانِهَا نزلَتْ في كُلَّ كُتُبِ اللَّهِ المُنَزَّلَةِ على كُلِّ نَبِيٍّ أُنْزِلَ عليه كتاب؛ ولذلك قال تعالى: {كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ}، وقرأ الجمهور: {يُوحِى} بإسناد الفعل إلى اللَّه تعالى، وقرأ ابن كثير وحده: «يوحَى» بفتح الحاء على بناء الفعل لِلْمَفْعُولِ، والتقدير: يُوحِي إليكَ القرآنَ. وقوله تعالى: {وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ}: يريدُ من الأنبياءِ الذين نَزَلَ عليهم الكتابُ، وقرأ نافع والكسائيُّ «يَتَفَطَّرْنَ»، وقرأ أبو عمرو، وعاصم: «يَنْفَطِرْنَ» والمعنى فيهما: يتصدَّعْنَ ويتشقَّقْنَ، خضوعاً وخشيةً من اللَّه تعالى، وتعظيماً وطاعةً. وقوله: {مِن فَوْقِهِنَّ} أي: من أعلاهن، وقال الأخفشُ، عليُّ بْنُ سُلَيْمَان: الضمير في {مِن فَوْقِهِنَّ} للكُفَّار، أي: من فوق الجماعاتِ الكافرةِ والفِرَقِ المُلْحِدَةِ مِنْ أجْلِ أقوالها تَكادُ السموات يتفطَّرْنَ، فهذه الآية على هذا كالتي في «كاهيعاصا»: {تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريم: 90] الآية، وقالت فرقة: معناه: من فوق الأرضين، إذْ قد جرى ذِكْرُ الأرض. وقوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الأرض} قالَتْ فرقةٌ: هذا منسوخٌ بقوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ} [غافر: 7] قال * ع *: وهذا قولٌ ضعيفٌ، لأَنَّ النَّسْخ في الأخبار لاَ يُتَصَوَّرُ، وقال السَّدِّيُّ ما معناه: إنَّ ظاهر الآية العمومُ، ومعناها الخصوصُ في المؤمنين، فكأنَّه قال: ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين، وقالت فرقة: بل هِيَ على عمومها: لكنَّ استغفارَ الملائكة ليس بطَلَبِ غفرانٍ للكفرة مَعَ بقائهم على كُفْرهم، وإنَّما استغفارهم لهم بمعنى طلب الهداية التي تُؤَدِّي إلى الغفران لهم، وتأويل السُّدِّيِّ أرجحُ.
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)} وقوله تعالى: {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} هذه آية تسليةٍ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ووعيد للكافرين، والمعنى: ليس عليك إلاَّ البلاغ فقطْ، فلا تَهْتَمَّ بعدم إيمان قريشٍ وغيرهم، اللَّه هو الحفيظُ عليهم كُفْرَهُمْ المُحْصِي لأعمالهم، المُجَازِي عليها، وأَنْتَ لَسْتَ بوكيلٍ عليهم، وما في هذه الألفاظِ مِنْ موادَعَةٍ فمنسوخٌ؛ قال الإمام الفَخْرُ في شرحه لأسماء الله الحسنى، عند كلامه على اسمه سبحانه «الحفيظ»: قال بعضهم: ما من عبد حَفِظَ جوارِحَه إلاَّ حَفِظَ اللَّه عليه قَلْبَهُ، وما من عبد حَفِظَ اللَّهُ عليه قلبه إلاَّ جعله حُجَّةً على عباده، انتهى، ثم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءاناً عَرَبِيّاً} [المعنى: وكما قضينا أمرك هكذا، وأمضيناه في هذه السورةِ كذلك أوحينا إليك قرآناً عربيّاً] مبيناً لهم، لا يحتاجُونَ إلى آخَرَ سِوَاهُ، إِذْ فَهْمُهُ مُتَأَتِّ لَهُمْ، ولم نكلِّفْكَ إِلاَّ إَنذار مَنْ ذكر، و{أُمَّ القرى} هي مكة، و{يَوْمَ الجمع} هو يوم القيامة، أي: تخوفهم إيَّاهُ. وقوله: {فَرِيقٌ} مرتَفِعٌ على خبر الابتداء المُضْمَرِ؛ كأنَّه قال: هُمْ فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السَّعِيرِ، ثم قوى تعالى تسليةَ نَبِيِّه بأَنْ عَرَّفَه أَنَّ الأمر موقوفٌ على مشيئة اللَّه من إيمانهم أو كُفْرهم، وأَنَّه لو أراد كونهم أُمَّةً واحدةً على دينٍ واحدٍ، لجمعهم عليه؛ ولكِنَّه سبحانه يدخل مَنْ سبقَتْ له السعادةُ عنده في رحمته، ويُيَسِّره في الدنيا لعمل أهل السعادة، وأَنَّ الظالمين بالكفر المُيَسَّرِينَ لعمل الشقاوة ما لهم من ولي ولا نصير، قال عبدُ الحَقِّ رحمه اللَّه في «العاقبة»: وقد علمتَ (رحمك اللَّه) أَنَّ الناس يوم القيامة صنفان: صنف مُقَرَّبٌ مُصَانٌ. وآخر مُبْعَدٌ مُهَانٌ. صنف نِصِبَت لهم الأَسِرَّة والحِجَال؛ والأرائكُ والكِلاَل؛ وجُمِعَتْ لَهُمُ الرغائبُ والآمالُ. وآخَرُونَ أُعِدَّتْ لهم الأراقمُ والصِّلاَلِ؛ والمقامعُ والأغلالِ؛ وضروبُ الأهوال والأنْكَال، وأنْتَ لا تعلم من أَيِّهما أنْتَ؛ ولا في أَيِّ الفريقَيْن كُنْتَ: [الكامل] نَزَلُوا بِمَكَّةَ في قَبَائِلِ نَوْفَل *** وَنَزَلْتُ بِالْبَيْدَاءِ أَبْعَدَ مَنْزِلِ وَتَقَلَّبُوا فَرِحِينَ تَحْتَ ظِلاَلِهَا *** وَطُرِحْتُ بِالصَّحْرَاءِ غَيْرَ مُظَلَّلِ وَسُقُوا مِنَ الصَّافي الْمُعَتَّقِ رِيُّهُم *** وَسُقِيتُ دَمْعَةَ وَالِهٍ مُتَمَلْمِلِ بكى سفيانُ الثوريُّ رحمه اللَّه ليلةً إلى الصَّبَاحِ، فقيل له: أبكاؤك هذا على الذنوب؟ فأخذ تِبْنَةً من الأرض، وقال: الذنوبُ أَهْوَنُ من هذا؛ إنَّما أَبْكِي؛ خوفَ الخاتمةِ، وبَكَى سفيان، وغير سفيان، وَإنَّهُ لِلأَمْر يبكى عليه؛ وَيصرف الاهتمام كلّه إليه. وقد قيل: لا تَكُفَّ دَمْعَك؛ حتى ترى في المعاد رَبْعَك. وقيل: يابْنَ آدم، الأقلام عليك تَجْرِي، وأنْتَ في غفلة لا تَدْرِي، يابْنَ آدمَ دَعِ التنافُسَ في هذه الدار، حتى ترى ما فَعَلَتَ في أمرِكَ الأَقْدَار، سمع بعض الصالحينَ مُنْشِداً ينشد: [الطويل] أَيَا رَاهِبِي نَجْرَانَ مَا فَعَلَتْ هِنْد............. *** فبكى ليلةً إلى الصباح، فَسُئِلَ عن ذلك فقال: قلتُ في نفسي: ما فعلَتِ الأقدار فيّ؛ وماذا جَرَتْ به عَلَيّ؟ انتهى.
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)} وقوله تعالى: {أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فالله هُوَ الولى...} الآية، قوله: {أَمِ اتخذوا}: كلامٌ مقطوعٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وليستْ بمعادلةٍ، ولكنَّ الكلام كأَنَّه أَضْرَبَ عن حُجَّةٍ لهم أو مقالةٍ مُقَرَّرَةٍ، فقال: {بَلِ * اتخذوا} هذا مشهورُ قولِ النَّحْوِيِّينَ في مِثْلِ هذا، وذهب بعضهم إلى أَنَّ «أم» هذه هي بمنزلة ألف الاستفهام دون تقدير إضرابٍ، ثم أثبت الحكم بأَنَّه عز وجل هو الوليُّ الذي تنفع ولايته. وقوله تعالى: {وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَئ فَحُكْمُهُ إِلَى الله...} الآية، المعنى: قل لهم يا محمَّد: وما اختلفتم فيه، أَيُّها الناس، مِنْ تكذيبٍ وتصديقٍ، وإيمانٍ وكفرٍ، وغَيْرِ ذلك فالحُكْمُ فيه والمجازاةُ عنه لَيْسَتْ إلَيَّ ولا بيدي؛ وإنَّما ذلك إلى اللَّه تعالى، الذي صفاته ما ذُكِرَ من إحياء الموتى والقدرة على كل شيء. وقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} يريد: زوجَ الإنسان الأنثى، وبهذه النعمة اتفق الذرء، وليست الأزواج ههنا الأنواع. وقوله: {وَمِنَ الأنعام أزواجا} الظاهر أيضاً فيه والمُتَّسِقُ أَنَّهُ يريد إناث الذَّكْرَان، ويحتمل أنْ يريد الأنواع، والأوَّل أظهر. وقوله: {يَذْرَؤُكُمْ} أي: يخلقكم نسلاً بعد نَسْلٍ، وقرناً بعد قَرْنٍ؛ قاله مجاهد، والناس، فلفظة «ذرأ» تزيد على لفظة «خلق» معنى آخرَ ليس في «خلق»، وهو توالي طبقات على مَرِّ الزمان. وقوله: {فِيهِ} الضمير عائد على الجَعْلِ يتضمَّنه قوله: {جَعَلَ لَكُم} وهذا كما تقول: كَلَّمْتُ زَيْداً كلاماً أكرمته فيه، وقال القُتَبِيُّ: الضمير للتزْوِيجِ، ولفظة «في» مشتركة على معانٍ، وإنْ كان أصلها الوعاء، وإليه يردها النظر في كل وجه. وقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئ} الكاف مؤكِّدة للتشبيه، فنفي التشبيه أوكَدُ مَا يكُونُ؛ وذلك أَنّك تقول: زيدٌ كعمرو، وزيْدٌ مِثْلُ عمرو، فإذا أردتَ المبالغة التامَّة قلتَ: زيدٌ كَمِثْلِ عَمْرٍو، وجرتِ الآية في هذا الموضع على عُرْفِ كلامِ العَرَبِ، وعلى هذا المعنى شواهِدُ كثيرة، وذهب الطَّبَرِيُّ وغيره إلى أَنَّ المعنى: ليس كهو شيء، وقالوا: لفظة {مَثَلُ} في الآية توكيدٌ، وواقعةٌ موقع «هو»، و«المقاليد»: المفاتيحُ؛ قاله ابن عبَّاس وغيره، وقال مجاهدٌ هذا أصلها بالفارِسِيَّةِ، وهي ههنا استعارة لوقوعِ كُلِّ أمرٍ تَحْتَ قدرته سبحانه، وقال السُّدِّيُّ: المقاليدُ: الخزائن، وفي اللفظ على هذا حذفُ مضافٍ، قال قتادة: مَنْ ملك مقاليد خزائن، فالخزائن في مِلْكِهِ.
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)} وقوله سبحانه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً...} الآية، المعنى: شرع لكم وبَيَّنَ مِنَ المعتقدات والتوحيدِ ما وصى به نوحاً قَبْلُ. وقوله: {والذى} عطف على {مَا}، وكذلك ما ذكر بَعْدُ مِنْ إقامة الدِّينِ مشروعٌ اتفقت النُّبُوَّاتُ فِيهِ؛ وذلك في المعتَقَدَاتِ، وأَمَّا الأحكامُ بانفرادها فَهِيَ في الشرائعِ مختلفةٌ، وهي المرادُ في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا} [المائدة: 48] وإقامة الدين هو توحيدُ اللَّهِ ورَفْضُ سِوَاهُ. وقوله تعالى: {وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ}: نَهْيٌ عن المُهْلَكِ مِنْ تفرُّق الأنحاء والمذاهب، والخيرُ كُلُّه في الأُلْفَةِ واجتماع الكلمة، ثم قال تعالى لنبيِّه عليه السلام: {كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}: من توحيد اللَّه ورَفْضِ الأوثان؛ قال قتادة: كَبُرَ عليهم «لا إله إلا اللَّه» وأبى اللَّه إلاَّ نَصْرها، ثم سَلاَّه تعالى عنهم بقوله: {الله يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ...} الآية، أي: يختار ويصطفي؛ قاله مجاهد وغيره و{يُنِيبُ} يرجع عنِ الكُفْرِ ويحرص على الخير ويطلبه. {وَمَا تَفَرَّقُواْ} يعني: أوائل اليهود والنصارى {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم}. وقوله: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي: بغى بعضُهم على بَعْضٍ، وأدَّاهم ذلك إلى اختلاف الرأْي وافتراقِ الكلمةِ، والكلمة السابقة قال المفسرون: هي حتمه تعالى القضاءَ بأَنَّ مجازاتهم إنَّما تقع في الآخرة، ولولا ذلك لَفَصَلَ بينهم في الدنيا، وغَلَّبَ المُحِقَّ على المُبْطِلِ. وقوله تعالى: {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب} إشارة إلى معاصري نَبِيِّنا محمد عليه السلام من اليهود والنصارى. وقيل: هو إشارة إلى العرب؛ والكتاب على هذا هو القرآن، والضمير في قوله: {لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ} يحتمل أنْ يعودَ على الكتاب، أو على محمد، أو على الأجل المسمى، أي: في شَكٍّ من البعث؛ على قول مَنْ رأى أَنَّ الإشارة إلى العرب، ووَصَفَ الشَّكّ ب {مُرِيبٍ}؛ مبالغة فيه، واللام في قوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فادع} قالت فرقة: هي بمنزلة {إلى}؛ كأنه قال: فإلى ما وَصَّى به الأنبياءَ من التوحيدِ فادع، وقالت فرقة: بل هي بمعنى «من أجل» كأنه قال: من أجلِ أَنَّ الأمر كذا وكذا، ولكونه كذا فادع أَنْتَ إلى ربك، وبَلِّغْ ما أُرْسِلْتَ به، وقال الفخر: يعني فلأجلِ ذلك التفرُّقِ، ولأجْلِ ما حَدَثَ من الاختلافاتِ الكثيرةِ في الدينِ فادع إلى الاتفاقِ على المِلَّةِ الحنيفيَّة، واستقِمْ عليها وعلى الدعوة إليها؛ كما أمرك اللَّه، ولا تَتَّبِعْ أهواءهم الباطلة، انتهى، وخوطب عليه السلام بالاستقامة، وهو قد كان مستقيماً بمعنى: دُمْ على استقامتك، وهكذا الشَّأْنُ في كُلِّ مأمورٍ بشيءٍ هو مُتَلَبِّسٌ به، إنَّما معناه الدوام، وهذه الآية ونحوها كانت نُصْبَ عَيْنَي النبيِّ عليه السلام، وكانت شديدة الموقع من نفسه، أعني قوله تعالى: {واستقم كَمَا أُمِرْتَ}، لأنَّها جملة تحتها جمِيعُ الطاعاتِ وتكاليفُ النبوَّة، وفي هذا المعنى قال عليه السلام: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُها»، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ ذَلِكَ، يَا نَبِيَّ اللَّه؟ فَقَالَ: لأَنَّ فِيهَا: {فاستقم كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] وهذا الخطابُ له عليه السلام بحَسَبِ قُوَّتِهِ في أمْرِ اللَّه عز وجل، وقال: هو لأُمَّتِهِ بحسب ضعفهم: استقيموا ولن تُحْصُوا. وقوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} يعني: قُرَيْشاً. * ت *: وفَرَضَ الفَخْرُ هذه القَضِيَّةَ في أهْلِ الكتاب، وذكر ما وقع من اليهود ومحاجَّتهم في دفع الحقِّ وجَحْدِ الرسالة، وعلى هذا فالضمير في: {أَهْوَاءَهُمْ} عائدٌ عليهم، واللَّه أعلم. اه. ثم أَمَرَهُ تعالى أَنْ يَقُولَ: {آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ الله مِن كِتَابٍ}، وهو أَمْرٌ يَعُمُّ سائِرَ أمته. وقوله: {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} قالت فرقة: اللام في {لأَعْدِلَ} بمعنى: أنْ أعدل بينكم، وقالت فرقة: المعنى وَأُمِرْتُ بما أُمِرْتُ به من التبليغ والشَّرْعِ؛ لِكَيْ أعدلَ بينكم. وقوله: {لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم} إلى آخر الآية ما فيه من مُوَادَعَةٍ منسوخٌ بآية السَّيْفِ. وقوله: {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} أي: لا جدال، ولا مناظرةَ؛ قد وَضَحَ الحق، وأنتم تعاندون، وفي قوله: {الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا}: وعيدٌ بَيِّنٌ.
{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)} وقوله تعالى: {والذين يُحَاجُّونَ فِى الله...} الآية، قال ابن عباس ومجاهد: نزلت في طائفة من بني إسرائيل هَمَّتْ بردِّ الناس عن الإسلام وإضلالهم، وقيل: نزلت في قريشٍ؛ لأنَّها كانت أبداً تحاول هذا المعنى، و{يُحَاجُّونَ فِى الله} معناه: في دين اللَّه أو توحيدِ اللَّه، أي: يحاجُّون فيه بالإبطال والإلحاد وما أشبهه، والضمير في {لَهُ} يحتمل أنْ يعودَ على اللَّه تبارك وتعالى، ويحتمل أنْ يعودَ على الدِّينِ والشرع، ويحتمل أنْ يعودَ على النبي عليه السلام و{دَاحِضَةٌ} معناه: زاهقة، والدَّحْضُ الزَّهقُ، وباقي الآية بَيِّن. وقوله سبحانه: {الله الذى أَنزَلَ الكتاب بالحق} معناه: مضمناً الحق، أي: بالحق في أحكامه، وأوامره، ونواهيه، وأخباره، {والميزان} هنا: العدل؛ قاله ابن عباس ومجاهد، والناس، وحكى الثعلبيُّ عن مجاهد؛ أَنَّهُ قال: هو هنا الميزان الذي بأيدي الناس، قال * ع *: ولا شَكَّ أَنَّه داخل في العدل وجزء منه. وقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} وعيدٌ للمشركين، وجاء لفظ «قريب» مُذَكَّراً من حيثُ تأنيثُ السَّاعَةِ غيرُ حقيقيٍّ، وإذْ هي بمعنى الوقت. * ت *: ينبغي للمؤمن العاقل أنْ يتدبَّر هذه الآيةَ ونظائرها، ويقدِّر في نفسه أَنَّه المقصود بها: [البسيط] لاَهٍ بِدُنْيَاهُ وَالأَيَّامُ تَنْعَاهُ *** وَالْقَبْرُ غَايَتُهُ وَاللَّحْدُ مَأْوَاهُ يَلْهُو فَلَوْ كَانَ يَدْرِي مَا أُعِدَّ لَه *** إذَنْ لأَحْزَنَهُ مَا كَانَ أَلْهَاهُ قال الغَزَّاليُّ في «الإحياء» قال أبو زكريَّا التَّيْمِيُّ: بينما سليمانُ بنُ عبد الملك في المسجد الحرام؛ إذ أُوتِيَ بحَجَرٍ منقوشٍ، فَطَلَبَ مَنْ يَقْرَؤُهُ، فأوتي بِوهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، فإذا فيه: ابنَ آدمَ، إنك لو رأيْتَ قُرْبَ ما بَقِيَ من أَجْلِك، لَزَهِدْتَ في طول أملك؛ وَلَرَغِبْتَ في الزيادَةِ مِنْ عَمَلِك، وَلَقَصَّرْتَ مِنْ حِرْصِكَ وحِيَلِكَ، وإنما يلقاك غَداً نَدَمُك؛ لو قد زَلَّتْ بك قَدَمُك، وأسلمك أَهلُكَ وَحْشَمُك، فَفَارَقَكَ الوَلَدُ والقَرِيب؛ وَرَفَضَكَ الوَالِدُ والنَّسِيب، فلا أَنْتَ إلى دُنْيَاك عائد؛ ولا في حَسَنَاتِك زَائِد، فاعمل ليومِ القيامهْ، قبل الحسرة والندامهْ. فبكى سليمان بكاءً شديداً، انتهى،، وباقي الآية بيِّن. ثم رَجَّى تبارك وتعالى عباده بقوله: {الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} و{لَطِيفٌ} هنا بمعنى رفيق مُتَحَفٍّ، والعباد هنا المؤمنون.
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)} وقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الأخرة} معناه: إرادة مُسْتَعِدٍّ عاملٍ، لا إرادةُ مُتَمَنٍّ مُسَوِّفٍ، والحَرْثُ في هذه الآية: عبارةٌ عن السَّعْيِ والتكسُّبِ والإعْدَاد. وقوله تعالى: {نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ} وَعْدٌ مُتَنَجَّزٌ؛ قال الفَخْرُ: وفي تفسير قوله: {نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ} قولان. الأوَّلُ: نزد له في توفيقه وإعانته، وتسهيلِ سبيل الخَيْرَاتِ والطاعاتِ عليه، وقال مقاتل: تزد له في حَرْثِهِ بتضعيفِ الثواب؛ قال تعالى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} [فاطر: 30] انتهى، وقوله: {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} معناه: ما شئنا منها ولمن شئنا، فَرُبَّ مُمْتَحَنٍ مُضَيَّقٌ عليه حريصٌ على حَرْثِ الدنيا، مريدٌ له، لا يَحُسُّ بغيره، نعوذُ باللَّهِ مِنْ ذلكا وهذا الذي لا يعقل غيرَ الدنيا هو الذي نفى أنْ يكون له نصيبٌ في الآخرة. وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله} «أم» هذه منقطعةٌ لا معادلةٌ، وهي بتقدير «بل»، وألف الاستفهام، والشركاء في هذه الآية يحتمل أنْ يكونَ المراد بهم الشياطين والمُغْوِينَ من أسلافهم، ويكون الضمير في {لَهُمْ} للكفار المعاصرين لمحمد عليه السلام فالاشتراك ههنا هو في الكفر والغواية، وليس بشركة الإشراك باللَّه ويحتمل أنْ يكون المراد بالشركاء: الأصنام والأوثان؛ على معنى: أم لهم أصنام جعلوها شركاءَ للَّه في أُلُوهِيَّتِهِ، ويكون الضمير في {شَرَعُواْ} لهؤلاء المعاصرين من الكفار ولآبائهم، والضمير في {لَهُمْ} للأصنام الشركاء، و{شَرَعُواْ} معناه: أثبتوا، ونهجوا، ورسموا و{الدين} هنا: العوائدُ والأحكامُ والسِّيرَةُ، ويَدْخُلُ في ذلك أيضاً المُعْتَقَدَاتُ السُّوء؛ لأَنَّهُم في جمِيع ذلك وضعوا أوضاعاً فاسدة، وكلمة الفصل هي ما سبق من قضاء اللَّه تعالى بأَنَّهُ يُؤخِّرُ عقابهم للدار الآخرة، والقضاء بينهم هو عذابهم في الدنيا ومجازاتهم. وقوله تعالى: {تَرَى الظالمين} هي رؤية بَصَرٍ، و{مُشْفِقِينَ} حال، وليس لهم في هذا الإشفاق مدح؛ لأنَّهم إنَّما أشفقوا حين نزل بهم، وليسوا كالمؤمنين الذين هم في الدنيا مُشْفِقُون من أمر الساعة، كما تقدم، وهو واقع بهم. أبو حيان: ضمير {هُوَ} عائد على العذاب، أو على ما كسبوا بحذف مضاف، أي: وبال ما كسبوا، انتهى، والروضات: المواضع المونقة النَّضِرة.
{ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)} وقوله تعالى: {ذَلِكَ الذى يُبَشّرُ الله عِبَادَهُ} إشارة إلى قوله تعالى في الآية الأخرى: {وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً} [الأحزاب: 47]. وقوله تعالى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} اختلف الناسُ في معناه فقال ابن عباس وغيره: هي آية مَكِّيَّةٌ نزلت في صدر الإسلام، ومعناها: استكفاف شَرِّ الكفار ودفع أذاهم، أي: ما أسألكم على القرآن إلاَّ أَنْ تَوَدُّوني لقرابةٍ بيني وبينكم؛ فَتَكُفُّوا عَنِّي أذاكم، قال ابن عباس، وابن إسحاق، وقتادة: ولم يكن في قريش بطن إلاَّ وللنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فيه نسب أو صِهْرٌ، فالآية على هذا فيها استعطافٌ مَّا، ودفع أذًى، وطلبُ سلامة منهم، وذلك كله منسوخ بآية السيف، ويحتمل هذا التأويل أنْ يكون معنى الكلام استدعاء نصرهم، أي: لا أسألكم غرامة ولا شيئاً إلاَّ أَنْ تَوَدُّوني لقرابتي منكم، وأنْ تكونوا أولى بي من غيركم، قال * ع *: وقُرَيْشٌ كُلُّها عندي قربى، وإنْ كانت تتفاضل، وقد رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: " مَنْ مَاتَ عَلَى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ مَاتَ شَهِيداً، ومَنْ مَاتَ على بُغْضِهِم، لَمْ يَشمَّ رَائِحَةَ الجَنَّةِ "، وقال ابن عَبَّاس أيضاً: ما يقتضي أَنَّ الآية مَدَنِيَّةٌ، وأَنَّ الأنصار جَمَعَتْ لرسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم مالاً وساقَتْهُ إليه، فَرَدَّهُ عليهم، وَنَزَلَتِ الآيةُ في ذلك، وقيلَ غَيْرُ هذا، وعلى كُلِّ قولٍ، فالاستثناء مُنْقَطِعٌ، و{إِلاَّ} بمعنى «لَكِنْ» و{يَقْتَرِفْ} معناه: يَكْتَسِب، ورَجُلٌ قُرَفَةٌ إذا كان محتالاً كسوباً و{غَفُورٌ} معناه: ساترٌ عُيُوبَ عباده، و{شَكُورٍ} معناه: مُجِازٍ على الدقيقة من الخير، لا يضيع عنده لعاملٍ عَمَلٌ. وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً} «أم» هذه مقطوعةٌ مضمنة إضراباً عن كلام متقدِّم، وتقريراً على هذه المقالة منهم. وقوله تعالى: {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ} معناه؛ في قول قتادة وفرقة من المفسرين: ينسيك القرآن، والمراد الرَّدُّ على مقالة الكُفَّار، وبيانُ إبْطَالِهَا، كأَنَّهُ يقُولُ: وكيف يَصِحُّ أنْ تكون مفترياً، وأنت من اللَّه بمرأًى ومَسْمَعٍ؟ هو قَادِرٌ لو شاء أَنْ يختم على قلبك؛ فلا تَعْقِلُ، ولا تنطق، ولا يستمرُّ افتراؤك؛ فمقصد اللفظ: هذا المعنى، وحُذِفَ ما يَدُلُّ عليه الظاهر؛ اختصاراً واقتصاراً، وقال مجاهد: المعنى: فإن يشإ اللَّه يختمْ على قلبك بالصبر لأذى الكفار، ويربطْ عليك بالجَلَدِ، فهذا تأويل لا يتضمَّن الردَّ على مقالتهم؛ قال أبو حَيَّان: وذكر القُشَيْرِيُّ أنَّ الخطاب للكفار، أي: يختم على قلبك أَيُّهَا القائلُ؛ فيكون انتقالاً من الغيبة للخطاب، {وَيَمْحُ}: استئنافُ إخبارٍ؛ لا داخل في الجواب، وتسقط الواو من اللفظ؛ لالتقاء الساكنين، ومن المصحف؛ حملاً على اللفظ، انتهى. وقوله تعالى: {وَيَمْحُ} فعل مستقبل، خبر من اللَّه تعالى أَنَّهُ يمحو الباطل، ولا بُدَّ إمَّا في الدنيا وإمَّا في الآخرة، وهذا بحسب نازلة نازلة، وكتب {يَمْحُ} في المصحف بحاء مرسلة، كما كتبوا: {وَيَدْعُ الإنسان} [الإسراء: 11] إلى غير ذلك مِمَّا ذهبوا فيه إلى الحذف والاختصار. وقوله: {بكلماته} معناه: بما سبق في قديم علمه وإرادته من كون الأشياء، فالكلمات: المعاني القائمة القديمة التي لا تبديلَ لها، ثم ذلك تعالى النعمة في تَفَضُّلِهِ بقبول التوبة من عباده، وقبول التوبة فيما يستأنف العبد من زمانه وأعماله مقطوعٌ به بهذه الآية، وأمَّا ما سلف من أعماله فينقسم، فأمَّا التوبة من الكفر فَمَاحِيَةٌ كُلَّ ما تَقَدَّمَها من مظالم العباد الفائتة وغير ذلك، وأمَّا التوبة من المعاصي فلأهل السُّنَّةِ فيها قولان: هل تُذْهِبَ المعاصيَ السالفةَ للعبد بينه وبين خالقه؟ فقالت فرقة: هي مُذْهِبَةٌ لها، وقالت فرقة: هي في مشيئة اللَّه تعالى، وأجمعوا أَنَّها لا تُذْهِبُ مظالم العباد، وحقيقةُ التوبة: الإقلاعُ عن المعاصِي، والإقبالُ، والرجوعُ إلى الطاعات، ويلزمها النَّدَمُ على ما فَاتَ؛ والعَزْمُ على ملازمة الخَيْرَات. وقال سَرِيٌّ السِّقَطِيُّ: التوبة: العَزْمُ على ترك الذنوب؛ والإقبالُ بالقَلْبِ على عَلاَّم الغيوب، وقال يحيى بن مُعَاذٍ: التائبُ: مَنْ كَسَرَ شَبَابَهُ على رأسه، وكَسَرَ الدنيا على رأسِ الشيطان، [ولزم الفِطام] حتى أتاه الحِمَام. وقوله تعالى: {عَنْ عِبَادِهِ} بمعنى مِنْ عباده، وكأنه قال: التوبة الصادرة عن عباده، وقرأ الجمهور: «يَفْعَلُونَ» بالياء على الغَيْبَة، وقرأ حمزة والكسائيُّ: «تَفْعَلُونَ» بالتاء على المخاطبة، وفي الآية توعُّد. وقوله تعالى: «ويستجيب» قال الزَّجَّاجُ وغيره: معناه: يجيبُ، والعَرَبُ تَقُولُ: أجاب واستجاب بمعنًى، و{الذين} على هذا التأويل: مفعول «يستجيب»، وروي هذا المعنى عن معاذِ بن جَبَلٍ، ونحوه عن ابن عباس، وقالت فرقة: المعنى: ويستدعي الذين آمنوا الإجابة من ربهم بالأعمال الصالحات، ودَلَّ قوله: {وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} على أنَّ المعنى: فيجيبهم، و{الذين} على هذا القول فَاعِلُ {يَسْتَجِيبُ}،، وقالتْ فرقة: المعنى: ويجيبُ المؤمنونَ رَبَّهم، ف {الذين} فاعلٌ بمعنى: يجيبُونَ دَعْوَةَ شَرْعِهِ ورسالتِهِ، والزيادة من فضله هي تضعيفُ الحسنات، ورُوِيَ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: " هِيَ قَبُولُ الشَّفَاعَاتِ في المُذْنِبِينَ، والرِّضْوَانُ ".
{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)} وقوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ} قال عمرو بن حُرَيْثٍ وغيره: إنَّها نزلت؛ لأَنَّ قوماً من أهل الصفَّة طلبوا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنْ يُغْنِيَهُمُ اللَّه، ويبسطَ لهم الأموالَ والأرزاق، فأعلمهم اللَّه تعالى أنَّه لو جاء الرِّزْقُ على اختيار البَشَر واقتراحهم، لكان سَبَبَ بغيهم وإفسادهم؛ ولكَّنه عز وجل أعلمُ بالمَصْلَحَةِ في كُلِّ أحدٍ: {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ}: بمصالحهم، فهو ينزل لهم من الرزق القَدْرَ الذي بِهِ صَلاَحُهُمْ؛ فرُبَّ إنْسَانٍ لاَ يَصْلُحُ، وتَنْكَفُّ عاديته إلاَّ بالفقر. * ت *: وقد ذكرنا في هذا المختصر أحاديثَ كثيرةً مختارةً في فضل الفقراء الصابرين ما فيه كفايةٌ لمن وُفِّق، وقد روى ابن المبارك في «رقائقه» عن سعيد بن المُسَيِّبِ قال: " جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ بِجُلَسَاءِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قال: هُمُ الخَائِفُونَ، الخَاضِعُونَ، المُتَوَاضِعُونَ، الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيراً، قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَهُمْ أَوَّلُ النَّاسِ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ؟ قال: لا، قَالَ: فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ يَدْخُلُ الجَنَّةَ؟ قال: الفُقَرَاءُ يَسْبِقُونَ النَّاسَ إلَى الجَنَّةِ، فَتَخْرُجُ إلَيْهِمْ مِنْهَا مَلاَئِكَةٌ، فَيَقُولُونَ: ارجعوا إلَى الْحِسَابِ، فَيَقُولُونَ: عَلاَمَ نُحَاسَبُ، وَاللَّهِ مَا أُفِيضَتْ عَلَيْنَا الأَمْوَالُ في الدُّنْيَا فَنَقْبِضَ فِيهَا وَنَبْسُطَ، وَمَا كُنَّا أُمَرَاءَ نَعْدِلُ وَنَجُورُ؛ وَلَكِنَّا جَاءَنَا أَمْرُ اللَّهِ فَعَبَدْنَاهُ حَتَّى أَتَانَا اليَقِينُ " انتهى. وقوله عز وجل: {وَهُوَ الذى يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ...} الآية، تعديدُ نِعَمِ اللَّه تعالى الدَّالَّةِ على وَحْدَانِيَّتِهِ، وأَنَّه المولى الذي يستحقُّ أَنْ يُعْبَدُ دونَ ما سواه من الأنداد، وقرأ الجمهور: «قَنَطُوا» بفتح النون، وقرأ الأعمش: «قَنِطُوا» بكسرها، وهما لغتان، ورُوِيَ أَنَّ عمر رضي اللَّه عنه قيل له: أجدبت الأرض، وقَنِطَ النَّاس، فقال: مُطِرُوا إذَنْ، بمعنى أنَّ الفرج عند الشِّدَّةِ. وقوله تعالى {وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} قيل: أراد بالرحمة: المطر، وقيل: أراد بالرحمة هنا: الشمْسَ، فذلك تعديد نعمة غير الأولى، وذلك أَنَّ المطر إذا أَلَمَّ بعد القنط حَسُنَ موقعُهُ، فإذا دَامَ سُئِمَ، فتجيء الشمْسُ بعده عظيمةَ المَوْقِعِ. وقوله تعالى: {وَهُوَ الولى الحميد} أي: مَنْ هذه أفعاله هو الذي ينفع إذا والى، وتُحْمَدُ أفعاله ونعمه، قال القُشَيْرِيُّ: اسمه تعالى: «الولي»، أي: هو المتولِّي لأحوال عباده، وقيل: هو من الوالي، وهو الناصر، فأولياءُ اللَّه أنصار دينه، وأشياعُ طاعته، والوليُّ: في صفة العبد مَنْ يُوَاظِبُ على طاعة رَبِّه، ومِنْ علاماتِ مَنْ يكونُ الحَقُّ سبحانه وَلِيَّهُ أنْ يصونه، ويكفِيَهُ في جميع الأحوال، ويُؤَمِّنَهُ، فيغارَ على قلبه أنْ يتعلَّقَ بمخلوقٍ في دفع شَرٍّ أو جَلْبِ نَفْعٍ؛ بل يكونُ سبحانه هو القائِمَ على قلبه في كُلِّ نَفَسٍ، فيحقِّق آماله عند إشاراته، ويعجِّل مَآرِبَهُ عند خَطَرَاتِهِ، ومن أماراتِ ولايته لِعَبْدِهِ: أنْ يُدِيمَ توفيقَهُ حتى لو أرادَ سُوءاً، أو قصد محظوراً عَصَمَهُ عن ارتكابه، أو لو جنح إلى تقصير في طاعة، أبى إلاَّ توفيقاً وتأييداً، وهذا من أماراتِ السعادَةِ، وعَكْسُ هذا مِنْ أماراتِ الشقاوة،، ومن أمارات ولايته أيضاً أنْ يرزقه مَوَدَّةً في قُلُوب أوليائه، انتهى من «التحبير». ثم ذكر تعالى الآية الكبرى الدَّالَّةَ على الصَّانِعِ، وذلك خَلْقُ السموات والأرضِ. وقوله [تعالى]: {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ} يتخرَّجُ على وجوهٍ: منها: أنْ يريدَ إحْدَاهُمَا، وهو ما بَثَّ في الأرض دونَ السموات، ومنها: أنْ يكون تعالى قد خلق في السموات وبَثَّ دوابَّ لا نعلَمُهَا نَحْنُ، ومنها: أنْ يريد الحيواناتِ التي تُوجَدُ في السحاب، وقد تَقَعُ أحياناً كالضفادع ونحوها؛ فَإنَّ السَّحَابَ داخل في اسم السماء. وقوله تعالى: {وَهُوَ على جَمْعِهِمْ} يريد: يومَ القيامة عند الحشر من القبور.
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)} وقوله تعالى: {وَمَا أصابكم مِّن مُّصِيبَةٍ} قرأ جمهور القُرَّاء: «فَبِمَا» بفاء، وكذلك هي في جُلِّ المصاحف، وقرأ نافع وابن عامر: «بِمَا» دون فاء، قال أبو علي الفارسيُّ: أصاب من قوله: {وَمَا أصابكم} يحتمل أنْ يكون في موضع جَزْمٍ، وتكون «ما» شرطيةً، وعلى هذا لا يجوزُ حَذْفُ الفاءِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وجَوَّزَ حَذْفَهَا أبو الحَسَنِ الأخْفَشُ، وبعضُ البغداديِّينَ؛ على أَنَّها مُرَادَةٌ في المعنى، ويحتمل أنْ يكون «أصاب» صلة ل«مَا»، وتكون «ما» بمعنى «الذي»، وعلى هذا يتجه حذفُ الفاء وثبوتها، لكن معنى الكلام مع ثبوتها التلازم، أي: لولا كَسْبُكُمْ ما أصابتكم مصيبة، والمصيبة إنَّما هي بكسب الأيدي، ومعنى الكلام مع حذفها يجوز أن يكون التلازم، ويجوز أنْ يعرى منه، قال * ع *: وأَمَّا في هذه الآية، فالتلازم مُطَّرِدٌ مع الثبوت والحذف، وأمَّا معنى الآية، فاختلف الناسُ فيه، فقالت فرقة: هو إخبار من اللَّه تعالى بأَنَّ الرزايا والمصائبَ في الدنيا إِنَّما هي مجازات من اللَّه تعالى على ذنوب المرء وخطاياه، وأنَّ اللَّه تعالى يعفو عن كثير، فلا يعاقب عليه بمصيبة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لاَ يُصِيبُ ابْنَ آدَمَ خَدْشُ عُودٍ، أوْ عَثْرَةُ قَدَمٍ، وَلاَ اخْتِلاَجُ عِرْقٍ إلاَّ بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو عَنْهُ أَكْثَرُ "، وقال مُرَّةُ الهَمَدَانِيُّ: رأيتُ على ظهر كَفِّ شُرَيْحٍ قُرْحَةً، فقلتُ: ما هذا؟ فقال: هذا بما كَسَبَتْ يَدَيَّ، ويعفو [اللَّه] عن كثير، وقيل لأبي سليمانَ الدَّارَانِيِّ: ما بالُ الفضلاء لا يَلُومُونَ مَنْ أساءَ إليهم؟ فقال: لأَنَّهُمْ يعلَمُونَ أَنَّ اللَّه تعالى هو الذي ابتلاهم بذنوبهم، ورَوَى عليُّ بْنُ أبي طَالِبٍ رضي اللَّه عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: " مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ عُقُوبَةٍ، أوْ بَلاَءٍ في الدُّنْيَا فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أنْ يُثَنِّيَ عَلَيْكُمُ الْعُقُوبَةَ في الآخِرَةِ، وَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ في الدُّنْيَا، فَاللَّهُ أَحْلَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ فِيهِ بَعْدَ عَفْوِهِ " وقال الحَسَنُ: معنى الآية في الحُدُودِ، أي: ما أصابكم من حَدٍّ من حُدُودِ اللَّه، فبما كسبَتْ أيديكم، ويعفو اللَّه عن كثير، فيستره على العبد حتى لا يُحَدَّ عليه، ثم أَخبر تعالى عن قُصُورِ ابن آدَمَ وَضَعْفِهِ، وأَنَّه في قبضة القدرة لا يعجز طَلَب رَبِّه، ولا يُمْكِنُه الفِرَارُ منه، و«الجواري»: جمع جارية وهي السفينةُ، و{كالأعلام}: الجبال، وباقي الآية بَيِّنٌ، فيه الموعظةُ وتشريفُ الصَّبَّارِ الشَّكُورِ.
{أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)} وقوله تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُواْ}: أوْبَقْتُ الرَّجُلَ: إذا أَنْشَبْتَهُ في أمْرٍ يَهْلِكُ فِيهِ، وهو في السفُنِ تغريقها و{بِمَا كَسَبُواْ} أي: بذنوب رُكَّابها، وقرأ نافع، وابن عامر: «وَيَعْلَمُ» بالرفع؛ على القطع والاستئناف، وقرأ الباقون والجمهور: «وَيَعْلَمَ» بالنصب؛ على تقدير «أنْ»، و«المَحِيصُ»: المنجى، وموضعُ الرَّوَغَانِ. ثم وعَظَ سبحانه عبادَهُ، وحَقَّر عندهم أمر الدنيا وشأنها، ورَغَّبَهُمْ فيما عنده من النعيم والمنزلة الرفيعة لديه، وعَظَّم قَدْرَ ذلك في قوله: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِّن شَئ فمتاع الحياة الدنيا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} وقرأ الجمهور: {كبائر} على الجمع؛ قال الحسن: هي كُلُّ ما تُوُعِّدَ فيه بالنار، وقد تقدَّم ما ذَكَرَهُ الناس في الكبائر في سورة النساء وغيرها، {والفواحش}: قال السُّدِّيُّ: الزنا، وقال مقاتل: مُوجِبَاتُ الحدود. وقوله تعالى: {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} حَضٌّ على كسر الغضب والتدرُّب في إطفائه؛ إذ هو جمرةٌ من جَهَنَّمَ، وبَابٌ مِنْ أبوابها، وقال رجلٌ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " أوْصِنِي، قَالَ: لاَ تَغْضَبْ، قَالَ: زِدْني، قَال: لاَ تَغْضَبْ، قَالَ: زِدنِي، قَالَ: لاَ تَغْضَبْ "، ومَنْ جاهد هذا العَارِضَ مِنْ نَفْسِهِ حتى غَلَبَهُ، فقدْ كُفِيَ هَمًّا عظيماً في دنياه وآخرته. * ت *: " وروى مالكٌ في «المُوَطَّإ» أَنَّ رجُلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ أَعِيشُ بِهِنَّ وَلاَ تُكْثِرْ عَلَيَّ فأنسى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَغْضَبْ» " قال أبو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ: أراد: عَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي بكلماتٍ قليلةٍ؛ لئلاَّ أنسى إنْ أكْثَرْتَ عَلَيَّ، ثم أسند أبو عُمَرَ من طُرُقٍ عن الأحنفِ بن قَيْسٍ عن عَمِّه جَارِيَةَ بْنِ قُدَامَةَ، أَنَّه قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لي قَوْلاً يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ، وأَقْلِلْ لِي؛ لَعَلِّي أَعْقِلُهُ، قَال: " لاَ تَغْضَبْ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مِراراً، كُلُّها يُرَجِّعُ إليه رسُولُ اللَّه: لاَ تَغْضَبْ "، انتهى من «التمهيد»، وأسند أبو عُمَرَ في «التمهيد» أيضاً عن عبد اللَّه بن أبي الهُذَيْلِ قال: لما رأى يحيى أَنَّ عيسى مُفَارِقُهُ قال له: أَوْصِنِي، قَالَ: لا تَغْضَبْ، قال: لاَ أَسْتَطِيعُ، قال: لا تَقْتَنِ مَالاً، قال عَسَى. انتهى. وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ كَفَّ لِسَانَهُ عَنْ أَعْرَاضِ المُسْلِمِينَ أقال اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ عَنْهُمْ، وَقَاهُ اللَّهُ عَذَابَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، قال ابن المُبَارَكِ: وأخبرنا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عن خالدِ بْنِ مَعْدَانَ قال: إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتعالى يَقُولُ: " مَنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وَمَنْ ذَكَرَنِي في مَلإَ ذَكَرْتُهُ في مَلإَ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَمَنْ ذَكَرَنِي حِينَ يَغْضَبُ ذَكَرْتُهُ حِينَ أَغْضَبُ فَلَمْ أَمْحَقْهُ فِيمَنْ أَمْحَقُ " انتهى.
{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)} وقوله تعالى: {والذين استجابوا} مَدْحٌ لكلِّ مَنْ آمَنَ باللَّهِ، وقَبِلَ شَرْعَهُ، ومَدَحَ اللَّهُ تعالى القَوْمَ الذين أَمْرُهُمْ شورى بينهم؛ لأنَّ في ذلك اجتماعَ الكلمة، والتَّحَابُّ، واتصالَ الأيْدِي، والتَّعَاضُدَ على الخير، وفي الحديث: «مَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ قَطُّ إلاَّ هُدُوا لأَحْسَنِ، مَا بِحَضْرَتِهِمْ». وقوله تعالى: {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} معناه: في سبيل اللَّه، وبِرَسْمِ الشَّرْعِ؛ وقال ابن زيد قوله تعالى: {والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ...} الآية، نزلت في الأَنصار، والظاهر أَنَّ اللَّه تعالى مدح كلَّ مَنِ اتَّصَفَ بهذه الصفةِ كائناً مَنْ كَانَ، وهل حَصَلَ الأنصارُ في هذه الصفة إلا بعد سَبْقِ المهاجرين إليها رضي اللَّهُ عَنْ جميعهم بِمَنِّه وكرمهِ. وقوله عز وجل: {والذين إِذَا أَصَابَهُمُ البغى هُمْ يَنتَصِرُونَ}: مدح سبحانه في هذه الآية قوماً بالانتصار مِمَّنْ بَغَى عليهم، ورجح ذلك قوم من العلماء وقالوا: الانتصار بالواجب تغيير منكر، قال الثعلبيُّ: قال إبراهيم [النَّخَعِيُّ] في هذه الآية: كانوا يكرهون أَنْ يُسْتَذَلُّوا، فإذا قدروا عفوا، انتهى. وقوله سبحانه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} قيل: سُمِّي الجزاء باسم الابتداء، وإن لم يكن سيئة، لتشابههما في الصورة، قال * ع *: وإنْ أخذنا السيِّئة هنا بمعنى المصيبة في حَقِّ البشر، أي: يسوء هذا هذا ويسوءه الآخر فلسنا نحتاج إلى أنْ نقول: سمى العقوبة باسم الذنب؛ بل الفعل الأَوَّلِ والآخر سيئة، قال الفخر: اعلم أَنَّهُ تعالى لما قال: {والذين إِذَا أَصَابَهُمُ البغى هُمْ يَنتَصِرُونَ} أردفه بما يَدُلُّ على أَنَّ ذلك الانتصار يجب أَنْ يكون مُقَيَّداً بالمثل؛ فإنَّ النقصان حَيْفٌ، والزيادة ظلم، والمساواة هو العدل؛ فلهذا السبب قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} انتهى؛ وَيَدُلُّ على ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ونحوه من الآي، واللام في قوله: {وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ} لام التقاء القسم. وقوله: {مِّن سَبِيلٍ} يريد: من سبيل حرج ولا سبيل حكم، وهذا إبلاغ في إباحة الانتصار، والخلاف فيه: هل هو بين المؤمن والمُشْرِكِ، أو بين المؤمنين؟.
{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)} وقوله تعالى: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس...} الآية، المعنى: إنما سبيل الحكم والإثم على الذين يظلمون الناس، روى التَّرْمِذِيُّ عن كعب بن عُجْرَةَ قال: قال لي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم،: " أُعِيذُكَ بِاللَّهِ يَا كَعْبُ مِنْ أُمَرَاءٍ يَكُونُونَ، فَمَنْ غَشِيَ أَبْوَابَهُمْ فَصَدَّقَهُمْ في كَذِبِهِمْ، وأَعَانَهُمْ على ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلاَ يَرِدُ عَلَي الْحَوْضِ، يا كَعْبُ، الصَّلاَةُ بُرْهَانٌ، والصَّبْرُ جُنَّةٌ حَصِينَةٌ، والصَّدَقَةُ تُطْفِئ الخطيئة كما يُطْفِئ الماءُ النَّارَ، يا كَعْبُ لاَ يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إلاَّ كَانَتِ النَّارُ أولى بِهِ ". قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ، وخرَّجه أيضاً في «كتاب الفتن» وصحَّحه، انتهى. وقوله تعالى: {إِنَّمَا السبيل} إلى قوله: {أَلِيمٌ}: اعتراضٌ بَيْنَ الكلامَيْنِ، ثم عاد في قوله: {وَلَمَن صَبَرَ} إلى الكلام الأول، كأنَّه قال: ولمنِ انتصر بعد ظلمه فَأُولَئِكَ ما عليهم من سبيل، {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ...} الآية، واللام في قوله: {وَلَمَن صَبَرَ} يصِحُّ أنْ تكون لام قَسَمٍ، ويصح أنْ تكون لام الابتداء، و{عَزْمِ الامور}: مُحْكَمُهَا ومُتْقَنُهَا، والحميدُ العاقبةِ منها، فمَنْ رأى أَنَّ هذه الآية هي فيما بين المؤمنين والمشركين، وأنَّ الصبر للمشركين كان أفضل قال: إنَّ الآية نسخت بآية السيف، ومَنْ رأى أَنَّ الآية بين المؤمنين، قال: هي مُحْكَمَةٌ، والصبر والغفران أفضل إجماعاً، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: " إذَا كَانَ يَوْمُ الْقَيَامَةِ، نادى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ أَجْرٌ فَلْيَقُمْ، فَيَقُومُ عَنَقٌ مِنَ النَّاسِ كَبِيرٌ، فَيُقَالُ: مَا أَجْرُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَحْنُ الَّذِينَ عَفَوْنَا عَمَّنْ ظَلَمَنَا في الدُّنْيَا " وقوله تعالى: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِىٍّ مِّن بَعْدِهِ} تحقير لأمر الكَفَرَةِ، أي: فلا يُبَالي بهم أحدٌ من المؤمنين؛ لأنَّهم صائرون إلى ما لا فلاحَ لهم معه، ثم وصف تعالى لنبيِّه حالهم في القيامة عند رؤيتهم العذاب، وقولهم: {هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} ومرادهم: الرَّدُّ إلى الدنيا، والرؤية هنا رؤيةُ عَيْنٍ، والضميرُ في قوله: {عَلَيْهَا} عائدٌ على النار، وإنْ لم يتقدَّم لها ذِكْرٌ من حيثُ دَلَّ عليها قوله: {رَأَوُاْ العذاب}. وقوله: {مِنَ الذل} يتعلق ب {خاشعين}. وقوله تعالى: {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىِّ} قال قتادة والسُّدِّيُّ: المعنى: يسارقون النَّظَرَ؛ لما كانوا فيه من الهَمِّ وسوء الحال لا يستطيعون النَّظَرَ بجميعِ العَيْنِ؛ وإنَّما ينظرون ببعضها؛ قال الثعلبيُّ: قال يونس: {مِنْ} بمعنى الباء، ينظرون بطرف خَفِيٍّ، أي: ضعيف؛ من أجل الذُّلِّ والخوف، ونحوُه عن الأخفش، انتهى، وفي البخاريِّ {مِن طَرْفٍ خَفِىِّ}، أي: ذليل. وقوله تعالى: {وَقَالَ الذين ءَامَنُواْ إِنَّ الخاسرين الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة...} الآية، وقول {الذين ءَامَنُواْ} هو في يوم القيامة عند ما عاينوا حال الكفار وسوء مُنْقَلَبِهِمْ. وقوله تعالى: {أَلاَ إِنَّ الظالمين فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ} يحتمل أنْ يكون من قول المؤمنين يومئذ، حكاه اللَّه عنهم، ويحتمل أَنْ يكون استئنافاً من قول اللَّه عز وجل وأخباره لنبيه محمد عليه السلام.
{وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)} وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ الله...} الآية، إنحاء على الأصنام والأوثان التي أظهر الكفار ولايتها، واعتقدَتْ ذلك دِيناً، ثم أَمَرَ تعالى نِبِيَّه أنْ يأمرهم بالاستجابة لدعوة اللَّه وشريعته من قبل إتيان يوم القيامة الذي لا يُرَدُّ أحد بعده إلى عمل، قال * ع *: في الآية الأخرى في سورة «ألاما غلبت الروم»: ويحتمل أن يريد: لا يَرُدُّه رَادٌّ حتى لا يقع، وهذا ظاهر بحسب اللفظ،، و«النكير»: مصدر بمعنى الإنكار؛ قال الثعلبيُّ: {مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ}: أي مَعْقِل، {وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ} أي: من إنكارٍ على ما ينزل بكم من العذاب بغير ما بكم، انتهى. وقوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ...} الآية تسلية للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، والإنسان هنا اسم جنس، وجَمَعَ الضمير في قوله: {تُصِبْهُمْ} وهو عائد على لفظ الإنسان من حيث هو اسم جنس.
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)} وقوله تعالى: {للَّهِ مُلْكُ السموات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ...} الآية، هذه آية اعتبار دَالٍّ على القُدْرَةِ والمُلْكِ المحيط بالجميع، وأَنَّ مشيئته تعالى نافذة في جميع خلقه وفي كُلِّ أمرهم، وهذا لا مدخل لصنم فيه، فإنَّ الذي يخلق ما يشاء هو اللَّه تبارك وتعالى، وهو الذي يقسم الخلق؛ فيهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الأولاد الذكور، {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ} أي: ينوعهم ذكراناً وإناثاً، وقال محمد بن الحَنَفِيَّةِ: يريد بقوله تعالى: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ} التَّوْءَمَ، أي: يجعل في بطن زوجاً من الذُّرِّيَّة ذكراً وأنثى، و«العقيم»: الذي لا يُولَدُ له، وهذا كله مُدَبَّرٌ بالعلم والقدرة وبدأ في هذه الآية بذكر الإناث؛ تأنيساً بِهِنَّ لِيُهْتَمَّ بصونهنَّ والإحسانِ إليهنَّ، وقال النبيُّ عليه السلام: " مَنِ ابتلي مِنْ هَذِهِ البَنَاتِ بِشَيْءٍ، فَأَحْسَنَ إلَيْهِنَّ، كُنَّ لَهُ حِجَاباً مِنَ النَّارِ "، وقال واثلةُ بْنُ الأَسْقَعِ: مِنْ يُمْنِ المَرْأَةِ تبكيرُها بالأنثى قبل الذكر؛ لأنَّ اللَّه تعالى بدأ بِذِكْرِ الإناث؛ حكاه عنه الثعلبيُّ قال: وقال إسحاق بن بِشْرٍ: نزلَتْ هذه الآيةُ في الأَنبياء، ثم عَمَّتْ ف {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً} يعني: لوطاً عليه السلام، و{وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور} يعني: إبراهيم عليه السلام، {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وإناثا} يعني: نِبِيَّنَا محمَّداً عليه السلام، {وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً} يعني: يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاء عليهما السلام. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءٍ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً...} الآية، نزلَتْ بسبب خَوْضٍ كان للكفار في معنى تكليم اللَّه موسى ونحو ذلك، ذهَبَ قريشٌ واليهودُ في ذلك إلى تجسيم ونحوه، فنزلت الآية مُبَيِّنَةً صورةَ تكليم اللَّه عبادَهُ، كيف هو، فَبَيَّنَ اللَّه تعالى أَنَّهُ لا يكُونُ لأَحَدٍ مِنَ الأنبياءِ، ولا ينبغِي له، ولا يمكنُ فيه أنْ يُكَلِّمه اللَّه إلاَّ بأَنْ يوحي إليه أحَدَ وجوه الوَحْيِ من الإلهام؛ قال مجاهد: أوِ النَّفْثِ في القَلْبِ، أو وَحْيٍ في منام، قال النَّخَعِيّ: وكانَ من الأنبياء مَنْ يُخَطَّ له في الأرض ونحو هذا، أو بأنْ يُسْمِعَهُ كلامه دون أن يعرف هو للمتكلِّم جهةً ولا حَيِّزاً كموسى عليه السلام، وهذا معنى {مِن وَرَاءٍ حِجَابٍ} أي: من خفاء عن المُكَلَّم لا يحدُّه ولا يتسوَّر بذهنه عليه، وليس كالحجابِ في الشاهد، أو بأنْ يرسِلَ إليه مَلَكاً يُشَافِهُهُ بوحْي اللَّه عز وجل، قال الفخر: قوله: {فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} أي: فيوحى ذلك المَلَكُ بإذن اللَّه ما يشاءُ اللَّه انتهى، وقرأ جمهور القُرَّاءِ والناس: «أَوْ يُرْسِلَ» بالنصب «فَيُوحَى» بالنصب أيضاً، وقرأ نافع، وابن عامر، وابن عباس، وأهل المدينة: «أَوْ يُرْسِلُ» بالرفع فيوحي بسكون الياء، وقوله: {أَوْ مِن وَرَاءٍ حِجَابٍ} «مِنْ» متعلِّقةٌ بفعْلٍ يَدُلُّ ظاهر الكلام عليه، تقديره: أو يكلِّمه من وراء حجاب، وفي هذه الآيةِ دليلٌ على أَنَّ الرسالة من أنواع التكليم، وأَنَّ مَنْ حَلَفَ: لا يُكَلِّم فلاناً، وهو لم ينوِ المشافهة، ثم أرسل رسولاً حَنِثَ.
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)} وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا...} الآية، المعنى: وبهذه الطرق، ومن هذا الجنس أوحينا إليك، أي: بالرسول، و«الرُّوحُ» في هذه الآية: القرآن آن وهدى الشريعة، سَمَّاه رُوحاً من حيث يُحْيي به البَشَرَ والعَالَم؛ كَما يُحْيِي الجسدَ بالروح، فهذا على جهة التشبيه. وقوله تعالى: {مِّنْ أَمْرِنَا} أي: واحد من أُمورنا، ويحتمل أَنْ يكون الأمر بمعنى الكلام، {وَمِنْ} لابتداء الغاية. وقوله تعالى: {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} توقيفٌ على مِقْدَارِ النعمةِ، والضميرُ في {جعلناه} عائدٌ على الكتابِ، و{نَّهْدِى} بمعنى: نُرْشِدُ، وقرأ جمهور الناس: «وإنَّكَ لَتَهْدِي» بفتح التاء وكسر الدال، وقرأ حَوْشَبٌ: «لتهدى» بضم التاء وفتح الدال، وقرأ عاصم: «لَتُهْدِي» بضم التاء وكسر الدال. وقوله: {صراط الله} يعني: صراط شرع اللَّه، ثم استفتح سبحانه القَوْلَ في الإخبار بصيرورة الأمور إليه سبحانه؛ مبالغةً وتحقيقاً وتثبيتاً، فقال: {أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الامور} قال الشيخُ العارفُ باللَّه أبو الحسن الشاذليُّ رحمه اللَّه: إنْ أردتَ أَنْ تغلب الشَّرَّ كُلَّه، وتلحق الخيرَ كُلَّه، ولا يَسْبِقَكَ سَابِق، وإنْ عمل ما عمل فقل: يا مَنْ له الخَيْرُ كُلُّهُ، أسألك الخيرَ كُلَّه، وأعوذ بك من الشَّرِّ كُلِّه، فإنَّك أنت اللَّه الغَنِيُّ الغفُورُ الرَّحِيم، أَسْأَلُكَ بالهادِي محمد صلى الله عليه وسلم إلى صراطٍ مستقيمٍ، صراطِ اللَّهِ الذي له ما في السموات وما في الأرض، أَلاَ إلى اللَّه تصيرُ الأمور، اللَّهُمَّ، إنِّي أَسْأَلُكَ مَغْفِرَةً تَشْرَحُ بها صَدْرِي، وتَضَعُ بها وِزْرِي، وترفعُ بها ذِكْرِي، وتُيَسِّرَ بها أمري، وتُنَزِّهَ بها فكري، وتُقَدِّسَ بها سِرِّي، وتكشفَ بها ضُرِّي، وترفَعَ بها قَدْرِي؛ إنَّك على كُلِّ شَيْءٍ قدير، اه. * قلت *: قوله تعالى: {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب}: هذا بَيِّنٌ، وقوله: {وَلاَ الإيمان}: فيه تأويلات: قيل معناه: ولا شرائع الإيمان ومعالمَه؛ قال أبو العالية: يعني: الدعوةَ إلى الإيمان، وقال الحسين بن الفَضْل: يعني أهل الإيمان، مَنْ يؤمن ومَنْ لا يؤمن، وقال ابن خُزَيْمَةَ: الإيمان هنا الصلاة؛ دليله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم} [البقرة: 143] قال ابن أبي الجَعْدِ وغيره: احترق مُصْحَفٌ فلم يبقَ منه إلاَّ: {أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور} وغَرِقَ مصحفٌ فامحى كُلُّه إلاَّ قولَه: {أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور} نقله الثعلبيُّ وغيره، انتهى. قال العبد الفقير إلى اللَّه تعالى، عبدُ الرحمن بْنُ محمَّدِ بنِ مَخْلُوفٍ الثَّعَالِبيُّ، لَطَفَ اللَّه به في الدَّارَيْنِ: قد يَسَّر اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ في تحرير هذا المختَصَر، وقد أودعتُهُ بحمد اللَّه جزيلاً من الدُّرُر، قد استوعبتُ فيه بحمد اللَّه مُهِمَّاتِ ابْنِ عطيَّةَ، وزدته فوائدَ جليلةً من غيره، وليس الخَبَرُ كالْعِيَانِ، تَوَخَّيْتُ فيه بحمد اللَّه الصَّوَاب؛ وجعلته ذخيرةً عند اللَّه لِيَوْمِ المآبِ، لا يَسْتَغْنِي عنه المُنْتَهِي؛ وفيه كفايةٌ للْمُبَتِدي، يستغني به عن المُطَوَّلاَت؛ إذْ قد حَصَّل منها لُبَابَهَا؛ وكَشَفَ عن الحقائقِ حِجَابَهَا. التَّعْرِيفُ بِرِحْلَةِ المُؤَلِّف رحلْتُ في طَلَبِ العِلْمِ في أواخر القَرْنِ الثَّامِنِ، ودخلْتُ بِجَايَةَ في أوائل القرن التاسع، فلقيتُ بها الأَئمةَ المقتدى بهم، أَصحابَ سيِّدِي عبد الرحمنِ الوغليسيِّ متوافرِين، فحضَرْتُ مجالسَهُمْ، وكانَتْ عُمْدَةُ قراءتي بها على سيدي [علي بن] عثمان المَانْجِلاَتِيِّ رحمه اللَّه بمَسْجِدِ عَيْنِ البَرْبَرِ، ثم ارتحلْتُ إلى تُونُسَ، فلقيت بها سيدي عيسى الغبريني والأُبِّيَّ، والبرزليَّ، وغيرهم، وأخذْتُ عنهم، ثم ارتحلْتُ إلى المشرق، فلقيتُ بِمِصْرَ الشيْخَ وَلِيَّ الدِّينِ العِرَاقِي، فأخذْتُ عنه علوماً جَمَّةً مُعْظَمُهَا عِلْمُ الحديث، وفتح اللَّه لي فيه فتحاً عظيماً، وكتب لي وأَجَازَنِي جميعَ ما حضَرْتُهُ عليه، وأطلق في غيره، ثم لقيتُ بمَكَّةَ بعض المحدِّثين، ثم رجعتُ إلى الديار المصرية وإلى تُونُسَ، وشاركْتُ مَنْ بها، ولقيت بها شيخَنَا أبا عبد اللَّه محمَّدَ بْنَ مَرْزُوقٍ قادماً لإرادة الحَجِّ، فأخذتُ عنه كثيراً، وأجازني [التدريسَ] في أنواع الفُنُونِ الإسلاميَّةِ، وحَرَّضَنِي على إتمام تقييدٍ وضعتُه على ابن الحاجِبِ الفرعيِّ. قلت: ولما فرغْتُ من تحرير هذا المختَصَرِ وافَقَ قدومَ شيخِنَا أبي عبد اللَّهِ محمد بن مرزوقٍ علينا في سَفْرَةٍ سافرها من تِلْمِسَانَ متوجِّهاً إلى تُونُسَ، ليصلح بَيْنَ سلطانها وبين صَاحِبِ تِلْمِسَانَ، فأوقفته على هذا الكتاب، فنظر فيه وأمعن النظر، فَسُرَّ به سروراً كثيراً ودعا لنا بخير، واللَّه الموفِّق بفَضْلِه.
|